16-03-2022 01:51 PM
بقلم : الدكتور جمال المصري
عشية اجتماعات لجان السياسة النقدية للبنوك المركزية الرئيسية في الاقتصادات المتقدمة وعلى رأسها الفيدرالي الأمريكي غدا وبعد غد، فليس أمام هذه البنوك سوى اللجوء إلى العلاج الوحيد لكبح جماح التضخم، وهو رفع معدلات الفائدة بغض النظر عن أي اعتبارات تخص النمو والتعافي الاقتصادي.
فلا خيارات أخرى في ظل ساحة اقتصادية دولية تعاني توترات وندوب ما بعد جائحة كورونا، والانعكاسات المخيفة للحرب الدائرة في أوروبا. كما أن برامج التيسير الكمي باتت تتحول شيئا فشيئا إلى عبء على الحكومات في هذه الدولة أو تلك. كما آن للفائدة الصفرية التي ظلت سائدة طوال الأعوام الثلاثة الماضية على الأقل أن تنتهي؛ حيث كان لها تأثيرات سلبية على الاستثمار والنمو وتوزيع الدخل.
فهذه الأثار السلبية التي يجب ان تكون حافزا للبنوك المركزية لتضييق سياساتها النقدية ومغادرة منطقة الفوائد السلبية او المتدنية، هي أثار لما يعرف بالسياسات النقدية الفضفاضة للغاية "Ultra-Loose Monetary Policies" حسب نظريات الاستثمار النقدي المفرط؛ التي ترى بأن السياسات النقدية الفضفاضة للغاية تخلق حوافز لاستبدال الاستثمار الحقيقي بالاستثمار المالي؛ وعندما يُتوقع انخفاض أسعار الفائدة على المدى الطويل، فإن الكفاءة الحدية والمتوسطة للاستثمارات تتراجع مما يضعف نمو الناتج المحلي الإجمالي، وأن استمرار أسعار الفائدة المنخفضة للغاية فترة طويلة ستنحى وتميل إلى توزيع الدخل على فئات الدخل الأعلى على حساب فئات الدخل الأدنى.
وقد يساعد هذا في تفسير سبب عدم انتعاش تضخم أسعار المستهلكين في معظم الاقتصادات، المتقدمة والنامية، على الرغم من التوسعات النقدية غير المسبوقة واستمرار التيسير الكمي لفترة طويلة أو ما يسمى فترة التضخم المنخفض، وكذلك العجز عن احداث نمو في الناتج والاستثمار في السنوات التي أعقبت الأزمة المالية 2008 لغاية الأن.
وقد يكون في هذا تفسير عن عدم نجاحنا في إحداث أي نمو مؤثر وذي معنى وزيادة التوظيف ومعالجة عجزي الموازنة وميزان المدفوعات المزمنين واتساع فجوتيهما؛ وبالتالي تخفيض الدين الذي وضعنا له سقفاً وحداً لا يتجاوز 77% حسب مستهدفات برامج صندوق النقد الدولي الذي لجأنا إليه منذ شهر آب 2012 والبرنامجين اللاحقين بالرغم من كل الإجراءات التقشفية والإصلاحات الهيكلية الاقتصادية التي تضمنتها، ما يدفعنا لإعادة طرح السؤال دائما ومجددا عن جدوى هذه البرامج التي صار واضحا بما لا يقبل الجدل والجدال أنها أضرتنا بأكثر مما أفادتنا رغم إصرار البعض على تجميل الأمر والادعاء بغير الحقيقة؛ وخصوصا البرنامج الأخير الذي كبل أيدينا في مواجهة أثار جائحة كوفيد الكارثية على الاقتصاد وفرضه لقواعد مالية متشددة تمسك بها الصندوق ولا أدري إن كان قد أصر عليها، في وقت كانت الاقتصادات الأخرى تتحرر منها وتتجاوزها وتكسرها وترفض العودة إليها وتتوسع في برامج التحفيز بشكل غير مسبوع رغم تراكم الدين، وعلى رأسها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان والأرجنتين وكثير من الدول؛ وبعضها يرتبط مع صندوق النقد ببرامج اصلاح قائمة أو أنها ألت برامج كانت قائمة كتونس والأرجنتين ومؤخرا أوكرانيا.
أما نحن فقد مارسنا دور الأبن أو الطالب المطيع ولم يكن المدرس مرنا كما كان ينبغي؛ والحق أنه لا لوم عليه، أي المدرس، طالما لم يُطلَب منه أن يتصرف بالمرونة والتساهل المطلوبين.
عوداً على موضوع أسعار الفائدة والمشهد المرتبك للاقتصاد العالمي، فالخوف الآن أن تفشل الحكومات في الاقتصادات المتقدمة في السيطرة على التضخم، ولا سيما إذا ما صدقت بعض السيناريوهات المتعلقة بمسارات وإمدادات الطاقة والغذاء، بما في ذلك الارتفاعات التاريخية الهائلة المتوقعة لأسعارها. وإذا ما استمرت هذه الارتفاعات على ما هو عليه، فسترتفع بالضرورة معدلات الفقر ليس فقط في المجتمعات النامية والفقيرة بل في المجتمعات الغربية أيضا. من هنا، لا بد للبنوك المركزية الرئيسة أن تتقدم بجرأة أكبر ودون تردد وترفع الفائدة بصورة دورية وبمعدلات غير متواضعة وغير خجولة علها تمتص ضربات التضخم وتوقف جماحه؛ فالرفع بربع نقطة أساس لن تكون مؤثرة بأي حال.
البنوك المركزية ومسؤولوها في حرج كبير، وعلى رأسها الفيدرالي الأمريكي ومسؤولوه، وصورة البنوك المركزية والثقة فيها واستقلاليتها أمام اختبار تاريخي أمام الدعوات الشعبوية والهيمنة المالية للحكومات والآراء الاقتصادية اللا علمية والعشوائية التي تطرح في دائرة الشعبويات والتنظير الأجوف. فالتضخم لا ينال من الناس فقط، بل يهدد مستقبل السياسيين أيضا في كثير من الأحداث.
وينطبق هذا على الدول التي ترتبط عملاتها بعملات رئيسية كالدولار الأمريكي كما هو بالنسبة للدينار الأردني، فقد تكون هذه الدول، والأردن خاصة، أكثر حاجة للحاق بقرارات الفيدرالي وذلك لأسباب لا تتعلق فقط بضرورة المحافظة على جاذبية أدوات الدينار الأردني واستمرارية التدفقات الرأسمالية إلى المملكة، ولكن لمغادرة حالة التأثيرات العكسية لإجراءات السياسة النقدية الفضفاضة للغاية والمفرطة واستمرارها طويلا. لذا، فالبنك المركزي تحت قيادته الجديدة سيمارس استقلالية سياسة النقدية ويتخذ قراراته المدروسة بموضوعية وبالحرفية التي عرف بها والتي قطعا لن تتأثر بأي ضغوط شعوبية أو مالية او مصرفية غدا وفي المستقبل كونه ستكون هنالك سلسلة من ارتفاعات أسعار الفائدة حتى نهاية عام 2022، كما تصرف دائما عبر تاريخه، رغم التخوفات على النمو الاقتصادي التي بدأت تثار من البعض من مختصين ومن غير المختصين حتى قبل ان يتخذ البنك المركزي قراراته، والتي لا أرى أنها حقيقية ومبررة بكل الاعتبارات.