حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الإثنين ,23 ديسمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 5694

رواية" ظل الغيمة" لحنا أبو حنا

رواية" ظل الغيمة" لحنا أبو حنا

رواية" ظل الغيمة" لحنا أبو حنا

19-03-2022 08:50 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - كغيره من أدباء فلسطين المهتمين بالسيرة الذاتية كتب حنا أبو حنا في " ظل الغيمة" سيرة المكان الفلسطيني فضلا عن الإنسان. وجدنا هذا الاهتمام بالمكان عند فيصل الحوراني الذي جعل سيرته في 5 أجزاء أولها بعنوان الوطن في الذاكرة وهو عنوان يفصح بلا ريب عن الموقع الذي يحتله المكان في هذه السيرة. وآخر سماه دروب المنفى في إشارة لأمكنة أخرى عاش فيها الكاتب ، وتأثر بما وقع وجرى فيها من مجريات. وهذا أيضا يذكرنا بما كتبه إدوارد سعيد بعنوان خارج المكان، وما كتبه محمد القيسي تحت عنوان الطرد من المكان، وجبرا إبراهيم جبرا الذي اتخذ من البئر – وهي التي تحتل ما تحتله من أهمية في المكان الفلسطيني- عنوانا لسيرته الموسومة بـ البئر الأولى. كذلك في جزء آخر من سيرته « شارع الأميرات» وهو اسم حي من أحياء بغداد التي عاش فيها منذ العام 1948 إلى أن توفاه الله. وأخيرا لا تفوتنا الإشارة لكتاب غربة الراعي لإحسان عباس الذي أفرط في الحديث فيه عن جبع وعين غزال وصفد وحيفا والقدس والكلية العربيةفضلا عن القاهرة والخرطوم وبيروت.

وهذه الأمثلة القليلة من الكثير الجم تطرح سؤالا لماذا يهتم الكاتب الفلسطيني والشاعر بالمكان اهتماما يفوق فيه غيره؟ والجواب عن هذا يتلخص في أن هذا الكاتب الذي يعيش في منفاه، أو ذاك الذي ما زال يعيش في المحتل من الوطن، كلاهما ذو حساسية خاصة تجاه المكان وذاكرته، لأنه يشاهد بعينيه كيف تقوم الصهيونية المجرمة بتغيير الخرائط، واستبدال الأسماء، ومحو القرى بواساطة الجرافات. ولذا يبدو الحديث عن القرية والبلدة والمدينة والحي والجوار، وما يضطرب في ذلك الفضاء من حياة يومية بجلّ ما فيها من تفاصيل أمرا ضروريا ليكون العمل الأدبي تاما كاملا أو شبه كامل يؤدي وظيفته من حيث كونُه بنية دالة على الواقع.

أسدود والكتّاب:

وحنا أبو حنا، الذي ولد في قرية (الرينة) على مسافة قصيرة من الناصرة سنة1928 بعد الهزة التي أصابتها 1927 ، كان والده قد وجد عملا في دائرة الأراضي والمساحة. وهذا العمل يتطلب لحسن الحظ التنقل من بلدة لأخرى، مما أتاح للمؤلف أن يختبر الحياة في طفولته في غير مكان. فهو في رام الله تارة، وفي حي الطوري بالقدس الشريف تارة، وتارة في أسدود التي تعرف فيها على(الكتّاب) للمرة الأولى. وهو المكان الذي اعتاد فيه الجلوس على الحصير ليردّد مع الأطفال في حينه آيات القرآن المجيد يتلوها عليهم شيخ ملتح يشبع حروف المد، ويعطيها حقها من النطق، والتفريق بين صوت هجائي وآخر. ولا يفوته في هذه السنّ التي كتب فيها الكتاب- وقد نيف على السبعين- أن يتذكر سوق الأربعاء في ما يشبه البانوراما الفولكلورية عن ذلك الحين، ولا يفوته أيضا أن يوازن بين هذا السوق وسوق الاثنين في بئر السبع.

شرفة على البحر:

أما المكان الذي ينبهر القارئ في قراءة ما شهده من ذكريات المؤلف أبو حنا فهو سفوح الكرمل شمالي فلسطين. فقد قُدّر للأسرة أن يتنقل بها العمل إلى حيفا، والإقامة في بيت جديد ذي شرفة على البحر. حيث الحوار الذي لا ينفك بين قدسية السَحَر، وطرواة البحر عند الفجر. وحيث بإمكان الصبي أن ينحدر بأنظاره تدريجا من المنزل إلى الشاطئ. ولما أن بلغ السابعة التحق بالمدرسة لتبدأ علاقته بالمكان طورا جديدا تعرَّف فيه على أطفال جدد، وقرأ أشياء جديدة، تجاوز بها سن الحفظ الذي اعتاده في الكتّاب.. وتعرف على مجلة السمير. وزار السوق الأبيض في حيفا، ورأى بأمّ عينيه لأول مرة مطبعة يديرها رجل اسمه نجيب نصار اكتشف بعد ذلك أنه مؤسس صحيفة الكرمل. ومثلما يصف لنا هذا الرائد المبكر للصحافة الفلسطينية يصف لنا ساحة الحناطير، وهي التي تنطلق منها عرباتٌ تجرها الخيول لنقل البضائع أو الركاب عبر أحياء المدينة وأسواقها قبيل معرفة السيارة. لكن الناصرة هي الأخرى من الأمكنة التي يذهل لها اللب، وتسلب العقل. والحديث عنها ذو نكهة خاصة لا سيما عند تسليط الضوء على سوق الناصرة الذي يعج بأصوات الباعة التي تنطلق متناغمة رشيقة تجذب الآذان بما فيها من أسْجاع وألحان. وما لدى بائع البوظة في ذلك الحين من أشكالٍ وألوان. وهو يلوح بيده صائحا حليب و إيما وشوكلاته.

مقامات:

في مدرسة المعارف طقسٌ جديد من طقوس التعلم الأساسي. أستاذ الحساب يعاقب الصبي لأنه ضعيف في هذا الموضوع خلافا لمعلم العربية الذي أعجبته قراءته لبعض ما تلاه من كتاب «الجديد» للسكاكيني. وإذا كان المؤلف أبو حنا شغوفا بالحديث عن الأمكنة، فإن هذا ليس حبا بالمكان لأجل المكان، ولكنه حبًا بالناس على رأي الشاعر الغَزِلِ القديم:

وما حبُّ الديار شَغَفْن قلبي

ولكن حبّ من سكن الديارا

لهذا سرعان ما يتوقف انثيال الخواطر عند موضوع ثورة عام 1936. وما انتشر في تلك الأثناء من أشعار يتغنى بها الثوار، وما تردد من شعارات وعناوين هتفت بها حناجر الفلسطينين. وما تناقلته الألسنة سرا وجهرا عن الاعتقالات والإعدامات. علاوة على هذا قلّ أن يقفنا المؤلف إزاء مكان من الأمكنة دون أن يروي فيه، ويتحدث، عن سيرورة الحياة اليومية بما فيها من رتابة حينا ومن صخب. ومن دبيب الحركة عند مطلع النهار في الشارع وفي الطريق وفي الأمكنة العامة من ساحات ومن دور عبادة. فها هو يروي لنا ما يتذكره عن قدوم الغجر للقرية، وعن خيامهم، وأساليبهم التي برعوا فيها لابتزاز الأهالي مقابل أعمال يقومون بها كالحدادة، والغناء، والرقص في الأفراح، والموالد، وحفلات الختان. إلى ذلك المشاهد التي ترسم صورةً نابضة بالحياة لاجتماع النسوة عند مصادر المياه من ينابيع وعيون، والعذارى العائدات إلى بيوتهن وعلى رؤوسهن جرارُهُن. وفي هذا السياق يروي المؤلف الكثير الجم عن علاقات الآباء والأمهات بأبنائهم وأبنائهن. وما يتطلبه هذا النسق من حكايات طريفة، ومن نوادر ومُلح، عن رجال تزوجوا على زوجاتهم سرا أو جهرا. وما يتذكره من أغانٍ عن هذا الموضوع من ذلك:

يا جارتي ملّي الجرَّة

وعيون جوزك لبرّة

وللمزارات، والمقامات، موقعها في هذه السيرة، التي تتحول من سيرة شخص إلى سيرة مجتمع. ففي فصل غير قصير يروي لنا ما قيل ويقال عن مقام (أبو شوشة) الذي زعموا أنه كان من جنود صلاح الدين، وأنه قاتل إلى جانبه في معركة حطين. وغير بعيد عن هذا ما يرويه عن الشيخ أبي موسى المغربي، الذي لا يعرف كيف ظهر في البلدة. وقد اكتسب ثقة الأهالي بما يعده من الحجُب، والتعازيم، لدفع الشر، أو للتوفيق بين رأسين على مخدة واحدة بالحلال، أو لجعل المرأة التي ُيخشى عليها من العقم سريعةَ الحبَل، كثيرة الإنجاب. وتروى عنه قصص طريفة جدا يكاد لا يصدقها العقل، ويأبى قبولها المنطق، ومع ذلك لم يكن الناس في ذلك الحين يتقبلون، أو يتغاضون عن الشك في ذلك. ومن باب الاستطراد يعود بنا المؤلف لموضوع المقاومة التي بدأها بالحديث عن ثورة 36 فثمة من يحرصون على امتلاك قطعة سلاح على حساب (اللقمة) حتى وإن كانت تلك القطعة قديمة، أو (مُبَنْدقة) ركبت فيها قطع دخيلة، فعلى رأي المثل (خَلَقَة باب بتحمي من الكلاب).

من السكاكيني إلى جبران:

مع هذا كله لم يشغله المكان، ولا شغله الإنسان بما فطر عليه من تقاليدٍ، وعاداتٍ، عن نفسه، فقد ذكر لنا جده لأمه(زايد) الذي توفاه الله عن عمر طويل بعد كدح في الزراعة وفي المحجر، ويذكر أسماء الأدوات التي كان يستعملها من النُخْل إلى العتلة ثم الدبورة والشاقوف إلخ.. واهتم بذكر مدرسيه لا سيما المدرس نعمة خريج المعهد الروسي في الناصرة، وهو المعهد الذي درس فيه ميخائيل نعيمة ونسيب عريضة ودرست فيه مي زيادة. وأما قراءاته، فغلبت عليها كتب التراث قبل أن يقع بصره على كتاب جبران « دمعة وابتسامة « فقد فتح له جبران الطريق مستقيمة ممهدة نحو الحداثة، وأكثر ما يعجبه في فكر جبران قوله» لكم لغتكم ولي لغتي «. عدل إذن عن التراث، وشغفَ بجبران، وهذا ساعده على الخروج عن ثقافة القطيع. وفهم عن قرب دوافع جبران وهجومه الشديد على رجال الإكليروس. وعلى الكتاب المتشبثين بالقديم بصفته المثل الأعلى أسلوبًا وبلاغة.

ومع أن سيرة أبي حنا يغلب عليها الطابع الاجتماعي والثقافي والأخلاقي، إلا أنها لا تخلو من الهاجس السياسي. وهذا ليس بغريب، فقد ذكر لنا أن شارك في مظاهرة في القدس ولما يتجاوز الحادية عشرة. وتنقل نشاطه بين الشارع والتنظيمات والصحافة. وشغف كثيرا بمتابعة الصحف قراءة وتحريرا. وفي الرابعة عشرة عرف المرأة لأول مرة في حياته لكنها كانت نزوة منها لا منه، وقابل قبلاتها النهمة بالإعراض، وغض الطرف عن هذه التجربة، فقد كانت بطلتها سيدة متزوجة من أقارب أمه. وآخر عهده بالنساء على وفق هذه السيرة التي تنتهي به دارسا في الكلية العربية في القدس مع لمياء، تلك التي نظم فيها أول قصيدة حب. لكن العلاقة سرعان ما بترت قبل أن تتوطد، وتترسخ، فقد عاد للناصرة فيما تحول أهلها إلى يافا. والملحوظ أن الشؤون الخاصة الذاتية لا تحظى باهتمامه كثيرا، في حين أن الحياة اليومية في القرية والبلدة والمدينة هي التي تستحوذ على اهتمامه. لذا يجد القارئ- حيثما نظر في صفحات الكتاب التي تنوف عن 250 - فصولا تروي بدقة وحيوية مشاهد من النمط الثقافي والاجتماعي والديني والأخلاقي والفني تميز به المجتمع الفلسطيني عن غيره في النصف الأول من القرن الماضي. ولو أن باحثا في الأنثروبولوجيا اتخذ من ظل الخيمة وثيقة مادية يعتمد عليها في دراستة للشخصية الفلسطينية بمقوماتها التي تختلف بها، أو تأتلف مع آخرين، لما كان مخطئا، أو مبالغا، في تصنيف الكتاب، وإدراجه في عداد المراجع الإثنوغرافية التي تشغل حيزا كبيرا في اهتمامات الأنثروبولوجيين وعلماء الأناسَة.

 

 











طباعة
  • المشاهدات: 5694

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم