حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الإثنين ,23 ديسمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 9213

ديوان "ويبوح الصّمت" لمريم الصيفي

ديوان "ويبوح الصّمت" لمريم الصيفي

ديوان "ويبوح الصّمت" لمريم الصيفي

21-03-2022 08:26 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - مريم الصيفي شاعرة ذات بصيرة عالية وإحساس إنساني مميز، اتسم شعرها بجرأة ورومانسية مرهفة، ولغة محكمة التراكيب والمفردات، فضلاً عن عذوبة في الإلقاء، وقد نالت اعترافاً متوالياً بشاعريتها وموهبتها وتميزها، مما جعلها تحتل مكانة في خارطة الشعر الأردني كإحدى أهم الشخصيات الشعرية النسوية، فضلاً عن كونها من الشاعرات المتفرّدات بأصالتها وموقفها وموقعها في الخريطة الشعرية العربية، وذلك نظراً لخصوصية هذه التجربة من جهة ولخصوصية الموضوعات والقضايا التي جسّدها شعرها على فترة زمنية تقارب ربع قرن من المغامرة الفنيّة على صعيد الشكل التجريبي محلياً وعربياً، الأمر الذي جعل قصائدها تتسم بالجدة والتمرُّد على القيم الجمالية التقليدية المألوفة والسائدة لتجسيد رؤيتها لهذا العالم المتناقض بما يشهده من تضارب في المصالح والعلاقات.

و مريم الصيفي واحدة من شاعرات الأردن، مع ثريَّا ملحس وسلوى السعيد ووفاء رمزي الدردنجي وعائشة الخواجا الرازم وأمينة العدوان وزليخة أبو ريشة وشهلا الكيالي ومنى السعودي ومي صايغ ونبيلة الخطيب؛ لكنها تأتي بعدهنّ في التسلسل الفنّي وإمكانية الكتابة، وما يميز مريم الصيفي هو ذلك الثقل المعرفي، الذي كوّن ثقافتها، فهي على مستوى مرموق من الثقافة، وقد امتلكت الشاعرة في وقت مبكر صوتاً خاصاً له القدرة على التعبير عن الكثير من القضايا الوطنية والوجودية والإنسانية، ومثلّت دواوينها الأولى العروبة والغيرة العربية.

لقد كتبت مريم الصيفي قصيدة البحر الخليلي وقصيدة التفعيلة، وينتمي إنتاجها الأدبي إلى الشعر الملتزم، حيث حملت قصائدها العديد من القضايا الوطنية والقومية، إضافة إلى قضيتها الكبرى فيما يتعلق بتحرر المرأة وحصولها على حقوقها، وأغلب شعرها غنائي، ولها أشعار متميزة في الرثاء، والعواطف الصادقة، والتعبير عن الأماني الوطنية، والمشاعر القومية، وتصوير الانطباعات المتأثرة بالأحداث السياسية، فضلاً عن حب الوطن، والأمل في نهضته، والألم من نكسة العرب.

وقد أصدرت الشاعرة عبر عشرين عاماً وهي المسافة الممتدّة من تاريخ صدور مجموعتها الأولى وحتى مجموعتها الأخيرة (7) مجموعات شعرية، وهذه المجموعات هي: (انتظار، 1996)، (عناقيد في سلال الضوء، 2002)، (صلاة السنابل، 2004)، (أغانٍ للحزن والفرح، 2006)، (وردة الغياب، 2013)، (ويبوح الصمت، 2017)، وتلاحظ تلك الهندسة التشكيلية اللافتة في عناوين هذه المجموعات، ففيها قدرٌ كبيرٌ وعالٍ من الأناقة والرشاقة والانسيابية.

لقد كتبت الشاعرة كثيراً عن روحها ووطنها، الهزائم والانكسارات والانتصارات، وكتبت عن حزنها الأصيل، عن وحدتها وغربتها، كتبت أيضاً عن علاقتها بالأهل والأصدقاء، كتبت عن انتظارها وحضورها وغيابها، وكتبت عن ذكريات الطفولة والطبيعة، وعن الوطن وفلسطين، واللغة والموت، وقد صوّرت الشاعرة في ديوانها معاناة الإنسان العربي عموماً وهو يرزح تحت تيّارات وضغوطات كبيرة تجسّدت في احتلال أجزاء من الوطن العربي، وما أعقب ذلك من حالة الضعف والتشرذم التي ألمّت بالأمة، وقد خصّت معاناة الشعب الفلسطيني بنصيب وافر من القصائد التي عبّرت من خلالها عن رفضها لكل محاولات القهر والظلم وطمس الشخصية الوطنية، فتميزت بنزعتها الوطنية والقومية، وجاءت قصائدها صورة صادقة عن هموم الواقع العربي. كقولها في قصيدة (أشرقتْ) المهداة إلى روح الشهيدة الفلسطينية أشرقت القطناني:

(أشرقتْ) في الّماءِ ومضَ ضياءِ

وتعالتْ نحوَ السنى والسناءِ

غرّدت روحُها تنادي فلسطينَ

وعزمٌ يختالُ في كبرياءِ

ثم نادتْ لعلّ صوتاً يُدوّي

وعسى أن يدومَ رجعُ النداءِ

يا بلادي أنا فدىً لترابٍ

قدّسَ اللهُ عطرَهُ بالنقاءِ (الديوان، قصيدة: أشرقت، ص15)

وقد اظبت الصيفي على طرح القضايا التي تمس الواقع عموماً، وواقع المرأة في المجتمع، إلى جانب تجسيدها لمعاناة شعبها، وما يعانيه من ألم الفقد والعوز والضياع، كما هو الحال في قصيدة (تهنئة واعتزاز) المهداة إلى المعلمة الفلسطينية حنان الحروب. والتي تقول فيها:

وقفتُ للعلمِ إجلالاً وإكبارا

وردّدتْ كلماتي الحمدَ أذكارا

ورحتُ أكتبُ حرفَ الضوءِ مزدهياً

يشعُّ بالزّهوِ أفراحاً وأنوارا

يُغرّدُ البهجةَ البيضاءَ زيّنها

عِلمٌ بهِ نملأُ الآفاقَ أزهارا

ويَفرُعُ الفخرُ في روحي ويبهجُها

في موطني فرَحٌ صغناهُ أفكارا (الديوان، قصيدة: تهنئة واعتزاز، ص 27)

ديوان مريم الصيفي «ويبوح الصّمت»، تجربة تستحق القراءة بغنى عوالمها، وتنوع زوايا نظر الشاعرة والتفاتاتها، خصوصاً وأن الصيفي تكتب محتفلةً بالحياة حتى في تلك القصائد التي تقطر أسى ولوعة، فهي تذهب بكلية قصيدتها نحو تحميل حلمها الفانتازي كل ما تراه مفقوداً وغائباً، وهي في ذلك تضع الفقد تحت أنوار كاشفة، كما هو الحال في قصيدتها (وأبكي كما الخنساء) والتي كتبتها الشاعرة في رثاء أخيها الحبيب الشاعر مصطفى الصيفي. والتي تقول في مطلعها:

ضياءَ عيوني ...فرَّ قلبي من الصدر

ليؤنسَ عذْبَ الروحِ في عتمةِ القبرِ

ويلقاكَ إذ عزَّ اللقاءُ بغربةٍ

يضمُّكَ جفنُ العينِ ما طال من دهرِ

أخي،،يا ابنَ أُمّي لن أصدِّقَ غيبةً

وتبقى ليَ الذكرى كشفعٍ بلا وتْرِ

أغادرتَ يا ابنَ الرّوحِ؟ يا سرَّ نبضِها

إلى أين يا عيني؟ فلستُ التي تدري (الديوان، قصيدة: وأبكي كما الخنساء، ص35).

في المجموعة التي بين أيدينا لا نجد اختلافاً بيّناً عن مجموعاتها الشعرية السّابقة، فمريم كعادتها نجدها مشغولة بنسيج لغوي يمزج التجريب اللغوي بفضاءات الصور الشعرية والأفكار، هي تكتب من مساحة تقارب النشيد ولكنها لا تتطابق معه، إذ تفلت كغزالة من براثن شباكه، لذلك يأتي شعرها مسربلاً باللهب ورموزها متوهجة بالنبض وتخاطب صورها العين أكثر ما تخاطب السمع.

إن ديوان مريم الصيفي الشعري يقترب كثيراً من كل ما هو خاص، شخصي وبالغ الحميمية، إنها تمزج اليومي بالهاجس والحلم، وصورة الواقع في المخيلة بأفكار واقعية، وكأنها ترغب أن تكون قصيدتها مرآة مخيلتها التي تحكي:

(وتنسلُّ من عتمةِ الليل روحٌ/ تفتّشُ عن ذاتها في انكسارِ الظلامْ/ وتغرقُ في أبحرٍ من ضبابٍ/ وفوق خيالاتِها الناحلاتِ/ تحلّقُ أجنحةٌ من غمامْ/ وتذوي غصونُ الأراجيحِ/ ملء الفضاء الذي/ حلّقت في دوائره غافيات اليمامْ/ وحين ترقُّ العصافيرُ بوحاً/ على غصن داليةٍ/ حين تحلو عناقيدها/ فيطيبُ الكلام). (الديوان، قصيدة: وتذوي غصون الأراجيح، ص159/160)

مع ذلك كله تبدو مريم في هذه المجموعة وقد أطلّت بوجه آخر أكثر لياقة لكتابة شعرية تنفلت من أية ضوابط وتبشر بجمالية أعلى، هي التي تمتلك ناصية الشعر وتعرف ببراعة كيف تعيد تشكيل عالمها الشعري، بما امتلكته من حرفية عالية في سبك الجملة الشعرية وصياغتها بأكثر الأشكال رشاقة وجمالية فنية.

اللافت في تجربة مريم الصيفي الشعرية هذه انحياز الشاعرة لرغبتها في مخاطبة روحها بألفة، واستحضار لغة الحلم بانتشالها من التفاصيل العادية والجزئيات اليومية العابرة وبالغة الرّتابة، إنها تصنع شاعريتها بمزيج من العفوية والحرفية المدروسة والتي تجعل القصائد أقرب إلى تكوينات تشكيلية عالية الصخب رغم همس كلماتها، كقولها في قصيدة «تجوال»:

كم كان حلوَا ذلك التجوالُ

شطُّ الخيالِ يضيءُ فيه جمالُ

ينسابُ من فرطِ العذوبةِ ماؤهُ

عسلاً فتشرقُ في المدى آمالُ

وتذوبُ في الموجاتِ روحٌ أدمنْت

ذاك الهوى فيطيبُ فِيهِ وصالُ

يا شاطئاً عشقَ الفؤادُ ترابَهُ

ونخيلُهُ كم عانقتهُ ظلالُ

كم كان في بوحِ القصيدِ حنينَهُ

ورواهُ حلماً طافَ فيه خيالُ (الديوان، قصيدة: تجوال، ص45).

في سياق شعرية كهذه يمكن ملاحظة شغف مريم الصيفي بكتابة شعرية من قلب الحلم ولكن في مفارقتها الساخرة للواقع، حيث إننا نقع في الديوان على قصائد تنشغل برسم مشاهد لها وقع الضربة الخاطفة، هي قصائد حميمة، بل إنها تطلع من الأمكنة الأكثر علاقة بالروح والحياة لأنها تنشغل بكتابة الحياة ذاتها وتقديمها في سطور شعرية عاصفة وذات صخب يليق بالمعاني التي تناوشها، والتي تبدو أكثر الأحيان وثيقة الصلة بشبيه في الواقع، شبيه تتجاوزه إلى تشكيلية أخرى وتعبيرية مغايرة. في قصيدة بعنوان «ذات حلم» نقرأ:

(تنامُ الجفونُ/ ويزهو حفيفُ غصونِ الكلامِ/ إذا ما استفاقْ/ ويحلو حديث الأصابعِ همساً/ وتجري الكريّاتُ لاهثةً/ عبرَ تلكَ الشرايينِ/ تلهجُ بالاشتياق/ وتعتَصَرُ الكفُّ رفقاً/ فتسمو براحتها لهفةٌ/ في التمنّي وترقى عروجاً/ لصدرِ السَماء/ وتنثالُ وهجاً شفيفاً/ سناهُ المضيءُ يُحلِّقُ/ ملءَ الفضاءْ/ ويدنو من الروحِ ترقى/ وفي ومضةِ النّورِ/ في حلكةِ الليلِ/ يحلو انعتاقْ. (الديوان، قصيدة: ذات حلم، ص155/156).

هي تجربة جديدة تعتني بإطلاق جمل شعرية في سياقات بسيطة السبك، بل لعلّها تذهب إلى تكوينها النهائي بأدوات متقشفة، بالمعنى الإيجابي، الذي يسمح للجملة الشعرية أن ترسم اللوحة التي تريد بيسر أكبر ولياقة فنية تناسب، خصوصاً وأنها تكتب لوحات حيّة تندلع من منبعين هامين، الذاكرة والمخيلة، على ما في استدراجهما إلى عالم الشعر من متطلبات الموهبة والرّهافة، كقولها في قصيدة (أنين):

(ويظلُّ يوقظني الحنينُ/ إلى الحنين/ ويفوحُ في قلبي كفوحِ/ الياسمين/ والروحُ تهفو لهفةً/ وتئنُّ من فرط/ انثيال دموعها/ شوقاً/ فيوجعها الأنين). (الديوان، قصيدة: أنين، ص223).

نتأمّل قصائد الديوان فنعثر على حرفية أعلى في سبك الجملة الشعرية، وترويضها على الدخول في عوالم وفضاءات تزدحم بالرؤى كما بالحكايات الصغيرة، وهي في القصائد كلها تبدو مشغولة بفكرة كتابة شعرية تتأسّس على «سردية» من نوع خاص، سردية تحسن معها الأنا «الراوية» البوح بأشجانها في سلاسة وجمالية، كقولها في قصيدة (وننتظر العيد): (وننتظرُ العيدَ!/ قلنا:/ سيحمل ما قد تيسّرَ/ من أمنياتْ/ وينثرُ في الفجرِ/ ضوعَ الربيعِ/ وما حملتهُ النسائمُ/ من عبقِ الوردِ والأغنياتْ/ ويحنو بكف/ ويمسح دمع الملايينِ/ مما ترقرقَ في/ مقلِ الأمهاتْ). (الديوان، قصيدة: وننتظر العيد، ص169-170).

إن مريم الصيفي، قد رسّخت في قصائدها، عذوبة اللغة، وحيويتها، وبساطتها المباشرة، وفي قصائدها قيمٌ تشكيلية وبالذات في تلك القصائد التي تحمل شجناً حاراً وتمتلك في الوقت ذاته جاذبيتها الفنية وألقها المشغول بعناية واحتراف.

في قصائد مريم الصيفي انتباه لافت لكل ما يجعل العادي مشتعلاً وطافحاً بالبريق، إنها تكتب من حضور واقعي طافح تعرف كيف تروّضه ليدخل القصيدة ويكتب نفسه، ومن يقرأ قصائدها يتوقف طويلاً أمام الحضور البهي لمشاهد وحالات ومواقف إنسانية نراها تحضر متشحة بإزار الشعر دون اختلال بل بكثير من الانتباه للعلاقة الخفية بين الكلمات والصور وما يمكن أن نسميه هنا المناخ الشعري الذي نظن أنه يأتي مفعما بالحرارة ومفتوحا على رؤية وتأمّل طويلين.

 

 











طباعة
  • المشاهدات: 9213

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم