26-03-2022 08:16 AM
سرايا - تمثل رواية "فاطمة/ حكاية البارود والسنابل" مرحلة زمنية لم أعش تفاصيلها غير أن قدرة الكاتب على إسقاط الأحداث على النفس حدّ التماهي تجعلك تتقمص جميع شخصيات الرواية وتعايشها وتستشعر الحالة النفسية والوجدانية التي تعيشها، بدءا بفاطمة ومرارة اليُتم والعوز، وانكسارها بفقد حمدان السند الوحيد بعد والديها والذي لم تعرف غيره لها أبًا وأمًّا وأخا وصديقا، ليغادر هذه الحياة ليلة زفافه فيتركها ضحيّة يُتمٍ جديد سيظل يلحّ عليها ما تبقّى من سنوات العمر.
فاطمة هي شخصية روائية تنسحب على شخوص كثر في الواقع المُعاش، في الفترة الزمنية التي تعالجها احداث الرواية، فقد تكون فاطمة تجسيدا حقيقيا للأمِّ الأردنية، أو الأخت الكبرى أو إحدى العمَّات أو الخالات التي عاصرت تلك الأحداث بتفاصيلها الدقيقة وكأنها جزء من تركيبة المجتمع آنذاك، أو بالأحرى كأنهاالقَدَر الذي لا بدَّ لك من معايشته، والقبول به رغم مرارة العيش وشظف الحياة، وسطوة الفقر والفقد والحرمان معا.
إنَّ فاطمة نموذج حيٍّ لابنة البادية الأردنية في فترة من الزمن، كان لها دور كبير في نشأة المجتمع، وشاركت بنفسها في بناء الأسرة الأردنية بتحمُّلها القيام بالعديد من المهام التي تزيد من قسوة الحياة، وفي الوقت نفسه كان لها حضور قويّ، ورأي يؤخذ به، وساهمت في مساندة الزوج وإعانته على تدبير شؤونه ومساعدته في البيع والعمل لتثبت أهليتها المبكرة لترسيخ دعائم مجتمع أردني ثابت، وتُنجب صبيةً «نشامى» تدَّخرهم للشهادة في سبيل الدفاع عن الوطن، ثم هي نموذج حقيقي للحزن وتحمُّل الألم والفقد والإصرار على أن تكون قوية إزاء كل هذه الإرهاصات التي تنوء بحملها الجبال.
في المقابل من صورة فاطمة تجد نفسك في مقارنة بينك وبين شخصية حمدان «شقيق فاطمة»وسندها الوحيد بعد فقد والديها، بوسامته وغيرته على شقيقته وحرصه عليها وقسوته التي تخفي رقّة وعذوبةً فائقتين، في مجتمع أقل ما يوصف بأنه لا متسع فيه للرقّة لما تُمليه الأعراف والعادات السائدة، فتجد نفسك تشاركه شراء «جهاز العرس» وال «فشك» وترصّ كتفك إلى كتفه في «الهجيني والتعليلة» ثم تشعر أنك أنت الذي صعدت روحك إلى السماء أو أنك حسرة فاطمة على رحيل أخيها.
إنَّ حمدان نموذج آخر للشاب البدوي الذي يجد نفسه في مواجهة الفقد واليُتم، ويتحمل مسؤولية تربية شقيقته الطفلة وتنشئتها وحمايتها، وهو ما يزال في سن مبكرة لتحمل هذا الحِمل الكبير الذي كان سببا رئيسيا في عدم قدرته على الاستمرارية في العيش، ثم هو صورة مباشرة للفرحة الناقصة، والأحلام الموءودة، والآمال التي لا تتحقق، إنه وجع فاطمة، وصرختها، والروح التي ستسكنها ما تبقى من سنوات العمر المرير.
في الجانب المقابل من شخصيات الرواية تجد نفسك إزاء شخصية عليّ «ابن خال فاطمة» الذي يصغرها بسنوات، وكان في حسبة أخيها بعد رحيل حمدان وانتقالها للعيش في بيت خالها، وعليّ صورة أخرى للبدوي الصغير الذي يحمل من أعباء المجتمع البدوي الناشئ فوق ما يطيق من حمل، ليكون في النهاية هو البطل الحقيقي، الذي يترك رحيله في نفس القارئ نوعين من الشعور يتوزعان بين الفخر به، والبكاء على قلب والدته المفطور، ضمن سرد روائي رشيق، بحيث يتماهى القارئ بشخصية عليّ وحجم الشقاء الذي يعيشه في رعي الغنم بعد وفاة الراعي الأمين، فترى فيه نفسك وأنت تتجهز لارتداء اللباس العسكري، وتتلقى تمرينات الرماية، وتركب الكونتنتال في طريقك إلى القدس، فتمسك بالرشاش وتطلق النار على العدوّ حتى تُنهكه، فينالك منه قذيفة تتركك شظايا متناثرة، لم يجد أحد لها أثرا، لتظلّ روحه ترفرف فوق رأس «صبحا» والدته ليل نهار فتخور قواها، لتكمل معها رحلة البكاء، والبكاء على قلب فاطمة وهي تودّع الأحبّة واحدا تلو الآخر ورحلتها في البحث عن فرصة للإنجاب وهي تستشعر أن روحا ما تسكنها فتحول دون تحقيق أحلامها بالأمومة.
ثمَّة مجموعة أخرى من الشخصيات تظهر في الرواية ويكون لها حضور قوي ودور في توجيه أحداث السرد، ولعل أبرزها شخصيَّتا الخال «حسين»، وزوجته «صبحا»، فقد كان للخال حضور بارز في الرواية، بدءا باستعداد حمدان للزواج وشراء «جهاز» العرس، ثم رحيل حمدان، وقيام الخال باحتواء فاطمة وتربيتها في أبنائه لتنال لديه حظوةً وكرامة كواحدة من أفراد البيت، وتضرب «صبحا» مثالا رائعا في تربية فاطمة والاعتناء بها وتنشئتها تنشئة سليمة، لتعوضها كل مشاعر الفقد التي تعيشها.
إننا إزاء رواية تاريخية مجتمعية صيغت بأعلى مهارات الكتابة الروائية، على يد كاتب له باع طويل في الكتابة القصصية والسرد المجتمعي، والهمِّ القومي، وتحفل الرواية بمعلومات تاريخية مكانية غزيرة، لدرجة تجعلك تتيقّن أن الكاتب كان شاهدا على عصرها، ويؤرخ للأحداث التي يعيشها رأي العين، فيتبدَّى عنصرا المكان والزمان في الرواية بنسقٍ فنّيٍّ بديع على نحو يضعك في صورة الحدث، وكأنك تشاهد عرضاً مرئيا وتعيش تفاصيله، من خلال قدرة عالية على رفع وتيرة الأحداث وخفضها بمهارة،لمناسبة الأحداث فتشعر أن عقدة النص تبلغ ذروتها أكثر من مرة ثم تنخفض، لتترك لك مساحة لتعيش حالةً من البكاء والنشيج، فتنفرد بدموعك، ميقنا أن ثمّة حزنا آخر تخبئه الصفحات القادمة.
لا أذكر أنني أنهيت قراءة رواية فكتبت حولها شيئا ما، أو أنني أكملت قراءة رواية إلكترونيا دون أن أحتضنها بكلتا يديّ، وأشمّ في صفحاتها رائحة الأحداث، لكنني وجدتني هنا مدفوعا للكتابة عن هذا العمل البديع الذي يؤرّخ لمرحلة مفصلية من تاريخ الأردن وفلسطين ويشي بالكثير الكثير مما تخفيه السطور من تساؤلات حول رحلة الشقاء المكتوبة على المجتمع الأردني، والدور التاريخي المنوط به إزاء الشقيقة فلسطين، وإقبال أبنائه على الجهاد طائعين، لأنهم لا يمكلون ما يقدمونه سوى أرواحهم التي استرخصوها في سبيل كرامة الوطن، وتقديم الأهالي أبناءهم فداء للأرض السليبة، وغير ذلك الكثير المثير من حزنٍ وشقاء وفقر وعّوَز وقلّة ذات اليد، وما يقابله من نفوس كريمة، تجود بكلّ ما تملك وتبشّ للضيفان فتكرمهم أيما إكرام.
لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "فيسبوك" : إضغط هنا
لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "تيك توك" : إضغط هنا
لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "يوتيوب" : إضغط هنا