30-03-2022 08:30 AM
سرايا - يعود كتاب النّاقد وعالمه لمؤلفه الّدكتور إبراهيم خليل إلى عام 2018، حيث صدر عن دار أمواج للنّشر والتّوزيع في عمّان، وجاء في 174 صفحةً من القطع المتوسّط تضمّنت مقدّمة وفصولًا ثلاثة وخاتمةً وقائمةً للمراجع والأعمال المنشورة لمؤلفه.
وفي الوقوف على عتبة الكتاب فإنّ العنوان الرئيسيّ يكشف عن الوجهة التي يذهب إليها صاحبه، حيث يسعى إلى تقديم دراساتٍ خاصّةٍ بالنّاقد دون غيره تكشف عن العالم الذي ينطلق منه، وينمّ عن رؤيته إلى النّقد ومناهجه فيه، وأمّا العنوان الفرعيّ فإنه ينقلنا من العامّ إلى الخاص، أي من النّاقد أيًّا كان إلى دراساتٍ مختارةٍ تقف عند ثلاثة نقّادٍ دون غيرهم، وهم إحسان عبّاس وجبرا إبراهيم جبرا ويوسف اليوسف.
وتؤكد المقدّمة على ذلك من خلال توجيه الفصول الثّلاثة التي ينهض عليها الكتاب نحو موضوعٍ واحدٍ متجانس الآفاق، لا ينفك عن النّقد الأدبي بما فيه من مقالاتٍ لشيخ النقّاد إحسان عبّاس ومساهماته في نقد الشّعر العربيّ الحديث ومؤلفاته المنشورة في كتبٍ نقدية، وكذلك قراءاته النّصية لبعض قصائد السيّاب المشهورة، وما وُجّه إليه من تهمٍ بالذّاتية والإفراط في الشّكلانية. والنّقد الانطباعي عند جبرا، ومحاولة تقديم إجاباتٍ ممكنةٍ عمّا أثير حول نقده الأدبي، ثمّ المناهج التي اتّبعها اليوسف في نقده الأدبيّ وانصرافه إلى التراث الشعري.
وهذه الثلاثة فصول تنسجم فيما بينها موضوعًا وتسليطًا للضّوء على أعلام النّقد الفلسطيني «هذه فصولٌ ثلاثة ينتظمها موضوعٌ واحدٌ متجانس الآفاق، لا يخرج عن النّقد الأدبي عامةً، ولا عن نقد الشّعر خاصة... وهدفنا بالطّبع، من هذا الكتاب، أن نسلط الضّوء على ثلاثةٍ من أعلام النّقد الفلسطيني الحديث.»ص7-8
ويعرض الكتاب في فصله الأول عالم إحسان عبّاس (1920-2003) النّقدي وما كُتب عنه من مقالاتٍ، وما نشرهُ في تاريخ الأدب العربيّ وتحقيق دواوين الشّعر والمخطوطات بين عامي (1952-1975)، وما عنده من نظرةٍ يربط فيها بين الشّعر والفلسفة، حيث راح يحلّل الأعمال تحليلًا فلسفيًّا يتّصل بالنّقد القديم، ويلحُّ على ضرورة التّنوع في عطاء الشّاعر، وعلى ضرورة التّلميح في الشّعر، واستحسانه من خلال تلمّس مواقف الشّعراء ومدى استجابتهم للأحداث القوميّة وعلامات التّحول، حيث رأى أنّ القصيدة لا تكون مدهشةً إلّا إذا أحالت المتلقّي إلى بعدٍ فكريٍّ عميق، كما أنه جعل من الجانب النّفسي عاملًا من عوامل الإبداع الشّعري التي تنقل الشّعر من حالة وجوده بالقوّة إلى حالة وجوده بالعقل، وأكّد على الإمعان في التّفسير وشرح الرّموز التي تضفي الغموض المحبّب، وسلّط الضّوء على اللغة العفويّة البسيطة التي تضيف للشّعر بعدًا لسانيًّا، ونجده ركّز أيضًا على الشّكل فشبّه القصيدة بالبورتريه والنّكت، ورأى في الشّعر العربيّ المعاصر مدونةً متكاملةً من الإبداع تنفتح فيها النّصوص على بعضها، واتّخذ به موقفًا نقديًّا يراوح بين النّظر القديم والحديث، وقد تطوّر في استجاباته النّقدية من الانطباعية والكلاسيكية إلى الحداثة التي تختلف فيها الآراء وتتباين، فلم يسر خطابه النّقدي على نسقٍ واحد، وكان له فضل الرّيادة الحقيقية للنّقد العربي.
أما في الفصل الثّاني من الكتاب، فقد وقف عند جبرا إبراهيم جبرا (1919-1994) وقدّم آراء الدّارسين في نقده أمثال عبد الواحد لؤلؤة والبصري، مؤكّدًا أنّ الدراسات له قليلةٌ لا تفيه حقّه؛ فأشار إلى تكوينه المعرفيّ ليكون ناقدًا نتج عن تجربةٍ إبداعيةٍ وممارسةٍ وجدانيّة، ودارسًا ومترجمًا متعدد المشارب التي جعلت منه شاعرًا وروائيًّا وقاصًّا وناقدًا بالطّبع والاكتساب، أكّد على دوره الكبير في النّقد فيما أضافه من مصطلحاتٍ جديدة من الوحدة العضويّة المونولوج الدّرامي والمونتاج والرمز والتّضمين، وهي مصطلحات لم تكن ذات ظهورٍ عشوائيٍّ عنده أو بعدٍ عن المنهج، وإنّما تَمثَّل عددًا من مناهج النّقد التي عرفت في الأدب الغربي والعربي، ورفض القوالب الجامدة والنّقد الإيديولوجي، وأشار إلى تضافر المعارف في العمليّة النّقدية، وفي ذات الوقت كان جبرا انطباعيًّا في نقده مستجيبًا استجابةً تأثّرية بالنّص لا تستند إلى تحليلٍّ أو تأمل، متعجلًا وعشوائيًّا في أحكامه.
واتّبع جبرا عددًا من المناهج فكانت تحت أحكامه الانطباعية توجّهاتٌ منهجيّةٌ واضحة مثل التّوجه الشّكلي والأسطوري والتّكويني الذي يتتبع سيرورة النّص بتتبع قصائد الشاعر بالتّوازي مع نموه الثّقافي والإبداعي والنّفسي، إلى جانب النّقد التأويلي والإيديولوجي، ليكون بذلك ناقدًا لا يتمركز في نقده حول ذاته، ولا يتقيّد بواحدٍ من المناهج ولا يقصي أيًّا منها.
وفي الفصل الثّالث عرض العالم النّقدي ليوسف اليوسف (1937- 2013)، فتحدّث عن ولادته في فلسطين ونشأته ودراسته وأثرها في مساره النّقدي، وكذلك مؤلفاته التي كان لها الدّور في إغناء الخطاب النّقدي العربي، ووقف عند كتابه «مقالات في الشّعر الجاهلي-1975»، فلخّص ما فيه من تأكيدٍ على أنّ الشّعري ذو صلةٍ في الظّروف الاجتماعيّة، وأنّ خلود الشعر الجاهلي نتيجة اتصال الحكمة بالتّفلسف البشري والتّجارب والخبرات الإنسانيّة دون تجاهل الجانب الفنّي فيه، وتحدّث عن رأي طه حسين في الشّعر الجاهلي، ونفى وغالى في ذوده عنه حدّ التهجّم، والتفت إلى ظاهرة الشّعر الذائع في عصر النّبوّة، كما أنّه أعاد النّظر في المقدّمة الطّلليّة باعتبارها تقدّم تأملاتِ الشّاعر بالوجود والعدم، وقدّم قراءةً في لامية الشنفرى لا يستقرُّ فيها على رأيٍ واحد موظّفًا مصطلحات علم النّفس، وأفرد مقالةً في الخيال والصّورة في الشّعر الجاهلي،وقدّم قصيدة الرّثاء باعتبارها نابعةً عن دافعٍ سيكولوجي وفسّرها تفسيرًا أسطوريًّا نفسيًّا أنثروبولوجيًّا، وربط الغزل العذري بالعامل النّفسي دارسًا لثيماته ولغته، وأقام موازنةً بين المتقدّم والمتأخر من الشّعر ممثّلةً بالغزل العذري الجاهلي والأموي، وتجاوز ذلك كلّه إلى الأدب الغربيّ.
صفوة القول، إن هذا الكتاب تمكّن في فصوله الثّلاثة أن يدرس النقّاد الثلاثة ويرصد نقاط التّشابه والاختلاف بينهم، حيث جاءت خاتمته لتوضّح تلك النّتائج فذكرت أنّ جميعهم فضّلوا عدم الالتزام بمنهجٍ نقديٍّ واحد، واعتمدوا على الذّائقة الجماليّة، واهتمّوا بالشّكل والبنية، وغلبت عليهم النّزعة الشّعرية في النّقد، فاقتفوا آثار النّقاد الغربيين في دراستهم للشّعر. في حين أنّ الاختلاف بينهم كان في اهتمام عباس وجبرا بالنّقد الإيديولوجي واليوسف بالأنثروبولوجي، وغلب على إحسان عباس النّقد الفلسفي والشّكلي، أما جبرا فغلب عليه النّقد الأسطوري والشّكلي، وكان اهتمام اليوسف بالشّعر القديم أكثر من غيره.