02-04-2022 02:59 PM
بقلم : أسيد حاتم محمد الحوتري
قالت العرب قديما لكل امرء من اسمه نصيب. وهكذا هي المؤلفات أيضا، فلكل كتاب من اسمه نصيب، (ليل طويل حياة قصيرة) مجموعة قصصية جديدة للأديب الأردني مجدي دعيبس الحاصل على جائزة (كتارا) عن روايته (الوزر المالح). ليل طويل، ألم أطول، معاناة لا تنتهي تُلازم أبطال وشخصيات هذه المجموعة القصصية؛ أما الحياة، والسكينة، والراحة، والفرح، والسعادة فكانت عابرة عبور السحاب، وأقصر بكثير مما هو مأمول!
(ليل طويل حياة قصيرة) تستحضر قول الشاعر ابن نباتة السّعدي: من لم يمت بالسيفِ مات بغيره/ تعددت الأسباب والموت واحد. إلا أن هذه المجموعة القصصية تطرح مفهوما معاكسا تماما لمضمون عَجْزِ بيت السّعدي، فهي تأكد على أنّ الموت ليس واحد بل هو متعدد، أما سبب الموت فهو الواحد.
في القصة الأولى (ليل طويل حياة قصيرة)، خرج الموت علينا بصورة برد قارص فتك بضحايا الحرب قبل أن تفتك بهم النار والرصاص. أما في قصة (مواطن 2050)، فلقد قدّمَ الكاتب الموت على صورة (فايروس) قاتل لا يبقي ولا يذر. وفي (أخضر ناصع البياض) كان الموت مجازيا، كان موتا للآمال والأحلام، وكذلك كان أيضا في قصة (الببّغاء)، فعلى الرغم من النهاية الفكاهية الساخرة، إلا أن الكاتب صوّر في هذه القصة اشتعال الرغبة الجنسية عند البعض مقابل موت تام لمشاعر الحب الصادقة والمخلصة. أما في قصة (حالة) نَجِد مزاوجة بين الموت الحقيقي والموت مجازا، فانتحار الحيتان والانتحار الجماعي للدلافين كان موتا حقيقيا، أما إفلاس شخصية (كامل الحريص) فقد كان موتا مجازيا، أو هروبا من أمر أسوء من الموت كما وصف الكاتب! وهنا إضاءة تستحق التّدبر والتأمل فيما هو أسوء من الموت. كما أن المتمعّن في قصة (الموظف الذي فقد رائحته) سيجد نفسه أمام رجل ميت معنويا، إنسان فاقد لكل المشاعر والأحاسيس بسبب معاناته الاجتماعية والاقتصادية؛ وكذلك هو الحال في قصة (تعهد خطي)، فهي تواصل العزف على نفس الوتر، فتروي قصة موظف يعاني من ضيق ذات اليد، فهو حي بمعنى أنه على قيد الحياة، ولكنه ميتٌ ماليا أو في عداد الأموات. ويستمر الموت المجاز في التدحرج إلى أن يصل القارئ إلى قصة (حرب داحس والغبراء الثانية) حيث تكون نهايتها بطلقات ثلاث تُجهِزُ على حياة زوجية بشكل مفاجئ وغير متوقع. وللموت بالسّيف نصيبه في هذه المجموعة القصصية المشوقة والماتعة، ففي قصة (خُرْجِ التين) تكون الحرب خيارا لا مفر منه، والموت هو الحاضر الأبرز والمنتصر الأكبر في كل الحروب. أما في قصة (شيرو) فيتطرق الكاتب لمرض من الأمراض المزمنة والتي تلازم المرء حتى موته؛ وهنا تكمن المفارقة، فلا يفارق السّقمُ المريضَ إلا بعد أن يفارق المريضُ الحياة! وفي قصة (صِيبة عين) يأتي الموت على شكل حسد ليخطف طفلا صغيرا من وسط أسرته. أما في قصة (غرائب ما يحدث كل يوم) فيطل الموت برأسه مرتديا قناع الخيار والاختيار والطواعية، فيصل مرتديا ثوب الانتحار. ويتدحرج الموت ويكبر ويدخل من طور إلى طور ويتبدل ويتحول حتى يصل قصة (قرية حدودية) فيصبح الموت عندها هدفا وغاية وأمنية، لأنه بالتأكيد أقل وجعا وإيلاما مما تخلّفه الحروب. والموت أحيانا يأتي متخفيا في لباس أمنية، فالكاتبُ الباحث عن التجديد والتجريب مستعد لخوض تجارب ومغامرات قد تقوده إلى حتفه، وقصة (قصة قصيرة) خير مثال على الأمنية التي قد تقود إلى الموت. وقد يأتي الموت أحيانا على شكل مناقب ومثالب، ففي قصة (كبرياء ديك) فَقَدْ أخذ الموت شكل الكبرياء فقتل الديك، كما قتل الفضول القطة من قبل بحسب المثل الإنجليزي: Curiosity killed the cat.
يواصل الأديب مجدي دعيبس حفرياته السردية باحثا عن أشكال أخرى للموت، ففي قصة (كفارة) يرسم القاص صورةً لموت التّوبة: قتل النفس الذي يُكفر به المذنب عن خطيئته لينال العفو والصفح والمغفرة. أما في قصة (ومن لم يعانقه شوق الحياة) فيعلّق القاص على الجدار الأبيض صورتان متناقضتان الأولى تعكس حياة من عانق الحياة واستمتع بأدق تفاصيلها، والأخرى صورة من خاصم الحياة واعتزلها وتركها مغاضبا. صورة للحياة، وأخرى للموت مجازا. ويظهر الموت على سبيل المجاز مرة أخرى في قصة (ارتباك) والتي تروي موت الآمال والأحلام، والاستعاضة عنها بالوهم والخيال وبأحلام اليقظة. وفي قصة (جرعة زائدة) يتجلى الموت على صورة جرعة زائدة من الضرب كان القصد منه درُّ العطف والمال لا قتل، ولكن القشة سبقت وقصمت ظهر البعير. وأخيرا في قصة (كلمة أخيرة) يصل الموت على صورة رصاصة طائشة تخترق جسم طفل بريء كان يحاول إنقاذ جيرانه من الموت عطشا، فيموت وهو يحمل الماء، بينما يبقى الجيران على قيد الحياة وهم ميّتون من العطش.
(ليل طويل حياة قصيرة) مجموعة قصصية عرضت صورا متعددة للموت، أما سبب الموت فكان دوما واحد؛ والسبب كان هو الإنسان، وهذا ما يؤكده المثل اللاتيني القائل: Homo homini lupus est ، الانسان ذئب الإنسان. لم تحتوي هذه المجموعة القصصية على أي شكل من أشكال الموت الطبيعي الناتج عن المرض أو كبر السن والشيخوخة، بل كان الموت دوما نتيجة لما يخترحه الإنسان بحق نفسه أو بحق أخيه الإنسان. (ليل طويل حياة قصيرة) دعوة إنسانية مفتوحة يوجهها الأديب الأردني مجدي دعيبس إلى الإنسان في كل زمان ومكان ليرحم أخيه الإنسان، فيَكُف عنه لسانه ويكف عنه يده، وليجعل لسانه ويده في إحياء النفس البشرية لا في قتلها، فمن أحياها فقد أحيا الناس جميعا.