حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الأربعاء ,20 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 2902

كتاب "بنى المقدس عند العرب" ليوسف شلحد

كتاب "بنى المقدس عند العرب" ليوسف شلحد

كتاب "بنى المقدس عند العرب" ليوسف شلحد

20-04-2022 03:51 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - إن النّاظر في مفهوم المقدس يدرك أننا أمام مجموعةٍ من الخطوط العريضة والأسئلة التي يمكن أن يفضي بنا إليها المصطلح، ما بين طاهر ومدنس، وحلال وحرام، ومطلق ومؤقت. وهل القدسية جاءت ملازمة مع الإسلام أم هي امتدادٌ سابقٌ للأديان؟ وإن كانت امتدادًا للعصور السابقة فكيف عمل الإسلام على عقلنتها؟ وما هي تجلياتها وأنواعها؟

يستهلك تشكيل مفهوم المقدّس وتقديمه على هيئة بناء متكامل إعادة النّظر في كتاب «بنى المقدس عند العرب» من خلال تجريد المصطلح من التتبع التاريخي البحت، والاكتفاء بمناقشة المفاهيم التي تواجهه من إيجابٍ وسلبٍ وتطهير وتدنيس وحلال وحرام، وتبيان أقطابه المتنافرة وأنواعه المتعددة.

لنتفق في البداية أنّ التّصور الإسلامي للمقدّس تصورٌ نابعٌ من البيئة العربيّة القديمة، فالإسلام على اتّصالٍ بالبيئة الاجتماعيّة والطبيعيّة التي ولد فيها، يُهيئه ليكون امتدادًا للظاهرة الثّقافية العربيّة التي تشكّل التّقارب بين الدّين والبداوة، غير أنّ هذا الامتداد لم يكن بذاك التّعقيد الذي كانت عليه البيئة البدوية، بل هو امتدادٌ يسمح بتبسيط المعتقدات لتكون قابلةً للتكيف العالميّ وانتقاله من النّطاق الضيّق زمانيًّا ومكانيًّا إلى الشّمولية والعالميّة، فمجيء الإسلام سمح بأخذ المعتقدات القديمة لكنّه أعاد صياغتها بما يناسب مبادئه؛ فنقل المجتمع من الفرد إلى الشّخص، ومن العشيرة إلى الأمة، ومن الأرواحية إلى العالميّة، وعارض الطّقوس البدويّة فاستبدل الخصوصيّة القبليّة بالشّمولية، والعصبيّة بالرّابطة الدّينية، وتحدّى المألوف، وفهم أيديولوجيا أبناء بيئته الصّادرعنها. فكان حضوره حضورًا يحدث امتدادًا بالعادات ويغيّرها دون أن يقطعها تمامًا، بل انطبع بالتصورات البدوية القديمة وعمل على عقلنة القدسي من خلال المقاربة التي أقامها بينه وبين البداوة جاعلًا من الزعامة والقيادة عند البدوي في مقابلةٍ مع التقوى عند المسلم، ووضع الرئيس البدوي أمام الخليفة المسلم. فهو لم يعارض البداوة، بل عارض ممارساتهم من خلال أنه ما عاد يستلزم لصلاح الصلاة العشائرية أن تجري في بيت مخصص لها، وألغى الوسطاء مع القدرة الإلهية، ولكنه قدّم تنازلات للبداوة من خلال قبوله بالعودة إلى التقويم القمري، فخلصنا من الحتمية الجغرافية التي تجعل الدين محددًا بالبداوة والصحراء، وكيّف المعتقدات والممارسات مع تصوّره الخاص للقدسي، حيث أخذ عن الصحراء طابعها الحميم والغامض والإذعان للقوى الخارقة والحضور الروحي في الزمني فنتج عن ذلك انسجامٌ لعناصر القدسي وقواته وتجلياته واعتقاداته مع البنية التحتية الدينية لشبه الجزيرة العربية قبل الهجرة.

وعليه، فإننا إزاء مفهوم ممتد يشمل البيئة التي ترعرع فيها وانتقل منها إلى العالم، ومنه يجب أن ندرك أن مصطلحات عديدة يمكن أن تختلط في القدسي، فعلى سبيل المثال نجد الحرام يُحكم عليه أحيانا بقدسيته فيفوتنا أنه أعم من المقدس وأقل عمقًا منه، تاليًا لذلك أن ليس كل ما هو حرام مقدس.

ويكمن تأثير المقدسفي كونه يؤثر على الجماعة ويسعى إلى تقدمها بطريقةٍ توليفية ينعزل فيها عن الدنيوي ويتطابق فيها مع الشرط البشري، بينما المدنس يمنع تلك الجماعة من أن تنعم بحياة هادئة فتأتي وظيفة الحرام في حماية الإنسان من شر الدناسة.

إنّ الحرام عمومًا ينبع من فكرتين رئيسيتين: الأولى تناقش مصدره وسببه الذي يكون كائنًا أو غرضًا قدسًا، والثانية تناقش المحرم نفسه الذي يمثل الوجه السلبي للقدسي. أما ما يهمنا هنا تتبع مصدره القدسي الذي ينبثق عن معيار وجودي يشبه المغناطيس في أقطابه، فيكون القطب الإيجابي كل ما هو طاهر، ويكون القطب السلبي كل ما هو مدنس.

إن القطب الإيجابي الطاهر يتسم في كون القداسة فيه ملازمة لأن مجالها غير دنيوي يتعلق بالسماوي، فيكون فيها الحرام حرامًا ملازمًا يعني أنها تحت حالة مستديمة من حالات القدسية. أما القطب السلبي المدنس تكون فيه القداسة مؤقتة لأنها ذات مجال دنيوي مدنس، غير أن هذه الدناسة يمكن أن يتطهر منها الإنسان طهارةً غير لازمة لا ترقى به أن يكون إلها.

عمومًا، إن القداسة تتجلى في المجال الدنيوي على هيئة بركة تجعلنا نقف على حد فاصل بين المقدس والمدنس، فهي غير مقدسة وغير مدنسة. وهذا التجلي ظهر في مرحلة ما قبل الإسلام على هيئة قوة خفية تمثلت بالتعاويذ والأحجبة، بينما بعد الإسلام صارت تصدرعن الله والقدسي اللامتناهي وأفعال المسلم من قرآن وأدعية وابتهلات وأضاحي وغيرها.

يتناول يوسف شلحد أنواع المقدس من زوايا مختلفة، فيرى أن القدسي منه ما هو مجهول يتمثل في الجن من الأبالسة والملائكة، والقدسي المفارق االله -عزّ وجل-، وكذلك يقف عند النفس بوصفها مقدسة، وعند الكائنات من إنسان وحيوان، والأغراض والجمادات والمكان والزمان مؤكّدًا بذلك أن مفهوم القداسة واسعٌ لا يمكن تحديده بشيء معين.

- القدسي المجهول: آمن العرب قديمًا بالقوى الخفيّة، وأدركوا وجود الأبالسة والملائكة، فقدسوها بوصفها كائنات خفية وشريرة في أغلب الوقت، لكنّها تصادق البشر أحيانًا وتكشف لهم أسرار العالم العلوي. والإسلام لم ينكر وجود القداسة في هذه القوى الخفية لكنه أكّد أنها خاضعة لقدسيّ أعلى يتمتع بقداسة مطلقة.

- القدسي المفارق: يشير الإسلام إلى أن القوة العلوية ملازمة لله –عز وجل- الذي خلق كل شيء على وجه الأرض بقدرته، ووضع نظامًا أوليًّا منذ الأزل محددًا للكون والأمم فكان اختراقه يؤدي إلى زوال الشعوب السابقة، وفكرة تقديس الله سبحانه وتعالى في الإسلام تشبه الأساطير قبله حيث كان يؤمن العرب بالبطل الحضاري والجد العظيم. فالإسلام تقبل الفكر الأسطوري وسوغه لصالحه برؤية مخالفة تمامًا لما كان عليه.

- النفس المقدسة: وقدسية النفس كذلك ممتدة منذ فترة ما قبل الإسلام الذي تصورها تصورا غير بعيد عن الخارق تهبط فيه نفسٌ إلى العالم السفلي، وتصعد أخرى إلى العالم العلوي على شكل انقسام فيما وراء القبر على صورة القدسي، وقد أشاروا قديمًا إلى الهامة والصدى والدم. أما مع القرآن فاكتسبت النفس قدسيتها من خلال أنها مبدأ عقلي خالد مسؤول عن أعمال الإنسان دون إشارةٍ إلى القديم من الهامة والصدى والدم. وظهر إلى جانب ذلك مفهوم الروح في الجسد التي تهبه الحياة وبالتالي فإن الإسلام عمل على تكييف الروح مع التصور التوحيدي للقدسي الذي آمن بوجود النفس التي تعزى عقلانيتها إلى الإنسان، والروح الموجودة في كل الكائنات من خلال اجتماعهما في جسد واحد.

- الأشخاص المقدّسون: وكان تقديس العرب للأشخاص قديمًا أمروارد، فوجدنا أنهم يقدسون الشريف والمجذوب والولي والفقير، وامتدّ ذلك إلى الإسلام من خلال تقديسه للأشخاص المباركين.

- الحيوانات المقدّسة: وذات الشيء مع الحيوانات، فقدوم الإسلام لم يقدس الحيوانات لأنها مجرد حيوانات بل لأنها تتوجه نحو طاعة أو عمل مبارك يكسبها قدسيتها مثل الأضحية.

- الأشياء المقدسة: وهي أيضًا لم تكتسب قدسيتها من مادتها، وإنما من البركة التي تحيط بها من مثل الحجر الأسود.

- المكان المقدّس: ويعد المكان موضعًا لتجلي القوة الخفية التي تتشكل على هيئة ثلاث دوائر مركزية لا تتكافأ في أبعادها، فالدائرة الأولى هي مقام الألوهة، والثانية هي الحرم، والثالثة هي المعبد الذي تؤدى فيه شعائر العبادة، لتأتي بعد ذلك منطقة واسعة تدل على مدى الإشعاع الصوفي، وامتداد قدسية المكان إلى منطقة غير محددة. وتمثل الكعبة نموذجًا على ذلك، حيث يكون فيها الحرم بمثابة توسيع لمنطقة قداسة مكة وتوسيع كبير للنطاق المقدس يتجلى بالبركة اللا محدودة التي تنتقل إلى النباتات والحيوانات والأشياء ، فكل مكان يُصلى به يكتسب قداسته، وأي مكان في الإسلام على علاقة بالتجلي المباشر نسبيًّا لقوة مقدسة.

- الزمان المقدس: ويمكن الإشارة في قدسية الزمان إلى أن بعض الأوقات أجدى من سواها للاتصال الإنساني بالإلهي مثل ليلة القدر. والزمان في الفكر الإسلامي هو زمان منقطع شرط عدم تقديم هذا الانقطاع كأنه نتيجة للتعالي.

صفوة القول، إن مفهوم القداسة صادرٌ عن بيئة عربية صحراوية قاحلة، وممتد ليتسع العالم أجمع، ويقع تحت خانته ما هو لازمٌ وطارئ، ومطهرومدنس، وحلال وحرام، وقد أخذ به الإسلام ليؤكد وجود نوعين من القداسة، فهنالك قداسة مطلقة لله عز وجل، وهنالك قداسة مؤقتة يمكن أن تحلّ على كل الأشياء على الأرض، وهي قداسةٌ تأخذ بيد كل العناصر تجاه التوحيد، فإن كان غاية القدسي الأعلى في دين الإسلام وغيره من الأديان هي التوحيد، فإن إعادة تطويع الإسلام للمقدس وأنواعه عملت على تأكيد الغاية التوحيدية وجعلت من كل الأشياء الدنيوية تلتقي في كونها حالات مقدسة طارئة في ظل حالة مقدسة دائمة علوية، فالقدسي يتجلى في كل الأشياء ولكنه يسير نحو مقصود واحد وهو الألوهة الواحدة والممارسات الشعائرية الواحدة، والمعتقدات الواحدة مع ربط الكل بتوحيدية العالم. ويسيطر على التصور الإسلامي للقدسي مبدأ التلازم الذي يؤكد أن القدسي يرتبط بنشاطات المؤمن ويبتعد عن التعالي المطلق.

 

 








طباعة
  • المشاهدات: 2902

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم