28-04-2022 10:01 PM
سرايا - في فجر الاثنين، السادس من (سبتمبر/أيلول) الماضي، استيقظ العالم على خبر فريد من نوعه؛ وهو فرار ستة من الأسرى الفلسطينيين من سجن جلبوع الذي يديره الاحتلال الإسرائيلي، وقد جذب حادث الهروب، وما تبعه من تطورات أدَّت في النهاية إلى أسر هؤلاء الفارين من جديد، الانتباه إلى واقع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال وما يلاقونه من أنواع الإرهاب النفسي والبدني في شتى مراحل الاعتقال.
في روايته "ستائر العتمة"، يروي لنا الأسير الفلسطيني المُحرَّر "وليد الهودلي" أهم هذه المراحل وأكثرها محورية؛ إنها مرحلة التحقيق التي يتحدَّد على إثرها كل شيء، وكانت في حالة "عامر" بطل روايتنا عبارة عن تسعين يوما من جولات التحقيق التي لا تنتهي، قبل أن تُختم الحكاية في النهاية بأعوام طويلة قضاها في سجن عسقلان. وعلى لسان "عامر"، يحكي لنا "الهودلي" روايته الواقعية، أو ربما سرديته، التي هي أقرب إلى مدونات أسير منها إلى رواية أدبية متكاملة.
على جانب آخر، تُعتبر هذه الرواية -أو السردية- "وثيقة مهمة تكشف أساليب المخابرات وما يمارسونه من قمع وتعذيب بحق المعتقلين داخل السجون"، وقد حاول الكاتب الأسير عبر قصته "رسم هذه الأساليب وتوضيحها بصورة بالغة الدقة والعمق… للمعتقلين الجدد الذين لم يسبق لهم تجربة الاعتقال، ولكل الذين لم يمروا بها".[1]
خرجت "ستائر العتمة" إلى النور عام 2001، قبل أن تصدر منها الطبعة الأولى عام 2003 عن "المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي"، وهي تقع في 178 صفحة من القطع المتوسط، وتنقسم إلى خمسة فصول يشرح كلٌّ منها لونا من معاناة الأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال. وقد صدرت الرواية على جزأين؛ "تجربة الوعي" و"تجربة الإرادة"، وتعلَّق كل جزء بمرحلة اعتقال مختلفة في حياة "الهودلي"، الذي تعرَّض في المرة الثانية للمُساءلة حول الجزء الأول من روايته. فكيف وصفت الرواية ذلك؟ وما تفاصيل وقائع الإرهاب النفسي -قبل البدني- الذي تمارسه قوات الاحتلال على الأسرى الفلسطينيين؟
دليل إرشادي
صدَّر "الهودلي" روايته بأنها كُتِبت في وقت فارق، غيَّر فيه الكيان الصهيوني أساليبه في التحقيق من العنف الجسدي والنفسي إلى العنف النفسي فقط، إلا في حالات خاصة تستدعي استصدار إذن خاص لممارسة التعذيب الجسدي. بهذا التصدير يأخذنا "الهودلي" إلى "عامر" القابع في زنزانته لقرابة عشرة أيام دون أن يعبأ به أحد، ليصف لنا كيف أثار هذا حفيظة الأسير السابق، الذي تعرَّض في تجربته السابقة لشتى أنواع التعذيب والضرب المبرح قبل أن يقضي خمسة أعوام في محبسه الأول، وهو ما لم يتكرَّر معه على الإطلاق هذه المرة في محبسه الثاني.
فبعد ما أحدثته الانتفاضة الثانية في نفوس المقاتلين والمقاومين في فلسطين، قرَّر "عامر" صحبة تلميذَيْه "إبراهيم" و"نبيل" تنفيذ إحدى العمليات النوعية ضد جيش الاحتلال، مُتحرِّيا في ذلك كل الإجراءات الأمنية التي تعلَّمها من خبرته السابقة، لكن هذا كله لم ينتهِ بسلام، فوجد نفسه رفقة صاحبَيْه في زنازين منفردة بمعتقل المسكوبية، حيث لا يرى أحدهم الآخر ولا يسمعه.
بدءا من هذه اللحظة تحديدا، بدأت الحرب النفسية على ثلاثتهم، لكن "الهودلي" ركَّز في سرديته على "عامر" بوصفه قائد المجموعة، الذي تحدَّدت ملامحه في شاب مجاهد ومتدين بصورة تظهر في كل أحاديثه الذاتية بصفحات الرواية، وكان قد تحرَّر لتوِّه من أسر قديم، قبل أن تدفعه أحداث الانتفاضة نحو عملية مقاومة جديدة، ومن ثمَّ وجد نفسه يقضي حاجة له خارج المنطقة (أ) الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، ما سهَّل تتبُّع المخابرات الإسرائيلية له والقبض عليه.
بيد أن اللافت للنظر في "ستائر العتمة" هو اهتمامها الشديد بتبيان ألاعيب جهات التحقيق وأساليبها النفسية، دون التطرُّق الكبير للتجاوزات الجسدية التي عانى منها الأسير في محبسه الأول، أو حتى التي تعرَّض لها في إحدى مراحل التحقيق في محبسه الثاني بعدما يئس المحققون من استمالته أو ابتزازه، ما يوحي لنا أن الغرض الأساسي من الرواية هو تقديم دليل إرشادي للأسرى الفلسطينيين، وللمقاومة في العموم؛ لتفادي الفخاخ المنصوبة في طيَّات التحقيق.
الكاتب وليد الهودلي
بواسطة شخصية "عامر"، كثَّف "الهودلي" عرض تقنيات التحقيق النفسية تلك في سرد واحد متصل، نادرا ما يتعرَّض سجين واحد له بشكل كامل، لكن يتفق مع طبيعة الرواية التي تُعَدُّ دليلا إرشاديا أكثر منها عملا فنيا. ويظهر من خلال السرد تنوُّع هذه التقنيات والطُّرق في بعض الأحيان وتفاعل "إبراهيم" و"نبيل" معها، وكيف نجا كلٌّ منهما من بعضها وانخدعا ببعضها الآخر. بينما يحافظ الكاتب من خلال شخصية "عامر" -بوصفه القائد- على الحالة الحَذِرة التي يجب أن يكون عليها الأسير، ولا يظهر لنا انخداعه بأيٍّ من هذه الحيل، بل ويوضِّح باستفاضة أحاديثه الذاتية التي حاور نفسه عبرها وحذرها وهرب بها من شَرَك المخابرات المنصوب في كل مرحلة.
علِّق الكاتب والناقد الأدبي "نافذ الشاعر" على هذا الأمر قائلا: "يبدو أنه استقرأ وتتبَّع كل أساليب المحققين في السجون، ومن ثم أراد أن يكشفها ويرتبها في صورة منطقية ويجعلها تنصب على شخص واحد هو ’عامر‘ بطل القصة، لأن تلك الأساليب لا تُمارَس على شخص واحد غالبا، بحيث يستنفد المحققون كل ما في جعبتهم من الوسائل التي استُحدِثت وطُوِّرت. فلما كان ذلك كذلك لجأ الكاتب إلى حيلة بارعة؛ حيث استقصى ما مُورِس بحق عدد من المعتقلين، ثم رتَّبه في صورة منطقية وجعله يتم على شخص واحد اسمه "عامر" هو بطل الرواية". [2]
يؤكِّد مكانة الرواية المعنوية ما حدث مع "الهودلي" نفسه أثناء اعتقاله الثاني، حيث تعرَّض للمُساءلة القاسية عن الجزء الأول من روايته، وحُذِّر عموما من الكتابة في المعتقل، حتى إنه يروي[3] استعانة أجهزة التحقيق في سجن "المسكوبية" ببروفيسورة من الجامعة العربية متخصِّصة في الأدب، وأدب السجون على وجه الخصوص، في محاولة لإثناء "الهودلي" عن مواصلة الكتابة، لكنه بالغ في المقاومة بشكل ساخر عندما استغل انفراده بالبروفيسورة وعرض عليها كتابة رواية مشتركة -بين أسير وخبيرة في أدب السجون- عن تجربة التحقيق، مُغريا إياها بالمكسب الطائل من وراء ذلك، وهو ما لم ينتهِ بعاقبة محمودة بالطبع.
لنحو عشرة أيام، قبع "عامر" في زنزانته بلا تحقيق ولا أنيس، تطوف به ذاكرته ويسأله عقله في نهم: "كيف وقعنا في أسرهم بعد كل تدابيرنا؟"، ولكن أكبر مخاوفه كانت في هذا الإهمال وتلك اللا مبالاة؛ فأين الضرب والسحق والتعذيب؟ هل هم ملتزمون حقا بالقرار القضائي الذي يمنع التعذيب الجسدي إلا بإذن خاص؟ أم أنهم وجدوا سبلا أخرى تكفيهم عناء الضرب ومشقة حمل العصا؟
بهذه المُقدِّمة يلفتنا الكاتب إلى الآلية الأولى التي تستعملها المخابرات، فهي تترك الأسير يضرب "أخماسا في أسداس"، فلا يعلم ما يُصنَع به ولا يتوقَّع ما هو آتٍ. وما هي إلا أيام حتى وجد "عامر" ضيفا في زنزانته، عرف -بعد فاصل من التصنُّع والخداع المُتقَن- أن هذا الأسير التقي الذي يُهوِّن عليه محبسه ليس إلا عصفورا (جاسوسا) لدى المخابرات.
ركَّز "الهودلي" كثيرا على ظاهرة "العصافير" في سجون قوات الاحتلال، وهم "العملاء الذين يُمثِّلون دور المعتقلين الشرفاء داخل السجون حتى يتمكَّنوا من خداع المعتقلين الجدد وأخذ اعترافاتهم".[4] وعبر سطور الرواية، تتبيَّن مهارة هؤلاء العصافير المدهشة، حتى إن هذا الشاب المذكور كان يدخل إلى "عامر" بعلامات الجوع والتعذيب والسهر، وتظهر عليه أمارات الخوف الشديد من كل كلمة، لدرجة أنه رفض الحديث في بادئ الأمر مخافة أن يكون "عامر" هو العصفور.
من هذا النموذج الفردي المُصغَّر ينتقل الكاتب إلى النموذج الأكبر؛ شبكة العصافير المُحكَمة، التي وقع في براثنها كلٌّ من "إبراهيم" و"نبيل"، إذ لعبت هذه المجموعة دور أعضاء في التنظيم الجهادي الذي ينتمي له الثلاثة، وبواسطة خطة مُحكَمة ومسرحية مدروسة، وجد "إبراهيم" نفسه يُسلِّم "نبيلا" وكثيرا من المعتقلين إلى هؤلاء العصافير، ظنًّا منه أنه يخدم التنظيم والمقاومة.
يخرج الكاتب من العصافير إلى الحرب النفسية المُضنية التي يمارسها المحققون على المتهم، إذ وجد "عامر" نفسه أمام أربعة محققين يتقاسمون يومه فيما بينهم، لكلٍّ منهم 6 ساعات كاملة يحاول أثناءها الفوز بكلمة من الأسير تُدينه أو تُخبره بمعلومة ذات قيمة. وتتبدَّى بشاعة هذه الحرب في أن الصبر عليها لا يُنهيها وإنما يزيد معاناتها، إذ قبع "عامر" نحو أسبوع كامل تحت أيديهم لم يذق فيه نوما ولا راحة، وكل ذلك دون مسبَّة واحدة وليس فقط دون تعذيب. وقد استفاض "الهودلي" في وصف كل محقق منهم، وكيف تباينت صفاته ومقوماته الشخصية بين الشدة والمرونة، وبين اللطف الشديد والخشونة المدروسة، حتى إنه كاد يذهب وراء صفقاتهم وإغراءتهم في غير مرة، لكن خبرته الأمنية هي ما أثنته في النهاية عن الانجراف وراءهم.
ثم يأتي بعد ذلك دور الابتزاز بالأهل والزوجة، وإحضارها لمقر الاحتجاز لإيهام الأسير باحتمالات كثيرة لا يُطيقها أحد على أهله، فضلا عن استخدام الأشخاص الذين يلقاهم الأسير لإتمام جزء من المسرحية الدائرة بهدف ابتزازه أو خداعه، بما في ذلك الطبيب الذي شخَّص حالة "عامر" بما يسمح بابتزازه، وعضوة الصليب الأحمر التي أغرته بإيصال رسائله إلى أهله لنيل اعترافاته، فضلا عن الابتزاز الجنسي بتصوير المتهم مع إحدى المحققات وهي تعرض نفسها عليه، وتزييف ردود فعله وتهديده بتشويه سمعته.
رغم البساطة الظاهرة في تلك الأساليب، وظن الأسير أنه يستطيع تجاوزها بسهولة، فإن الحرمان من النوم والأكل الطيب والعلاج الصحيح، فضلا عن تركه لوساوسه دون إجابة، كلها أمور تُخرِج المرء من يقظته الذهنية وتُلقي به في غياهب التيه والتشوش اللذين لا يستطيع معهما التفكير والمقاومة، ولمَّا كان "عامر" شخصا استثنائيا ونجح في التغلُّب على كل هذا، جاءه إذن المحكمة بالجائزة: مبارك، الآن تستحق التعذيب.
على هامش السرد
رغم القيمة المعنوية التي احتلَّتها الرواية في أدب السجون الفلسطيني، فإنها وجدت على المستوى الأدبي عددا من الاعتراضات، خاصة من جمهور موقع "جودريدز" الشهير، والمختص بعرض الكتب واستعراض الآراء حولها. ورغم التقييم المرتفع للرواية بأربعة نجوم تقريبا، فإن مجموعة من الآراء انتقدت افتقادها للحبكة الدرامية المناسبة واقتصارها على السرد الإخباري فقط.
فمن جهة، أشاد الجميع تقريبا بالخبرة التي تزخر بها الرواية في موضوعها، بل وجعلها البعض أهم عمل فلسطيني عن السجون، لما فيه من الإرشاد المعرفي لكل مُعرَّض لمثل هذا الموقف. لكن من جهة أخرى، رأى البعض، ومنهم القارئة "روان المزايدة"، أن "أسلوب السرد يدعو للملل، وحديث البطل عامر مع نفسه أشبه بخطبة دينية عصماء عن الصبر". وكذا ينتقد القارئ "أحمد حسام" تحويل الرواية إلى عمل أيديولوجي يُغفِل الجانب الإنساني ويجعل البطل أشبه بالمعصوم الذي قد تنتابه الحيرة لكن إرادته لا تلين أبدا حتى يتفطر الدمع من عيون أعدائه".[5]
فضلا عن ذلك، عاب الرواية تكرار الحوارات والكلمات، خاصة حديث "عامر" لنفسه الذي كان مباشرا وبسيطا ولا يعدو كونه تذكيرا للنفس بألاعيب المخابرات وتثبيتا لها بالآيات والذكر، لكن هذا نفسه قد يكون ضربا من الواقعية، كون الرواية سردا ذاتيا لحياة الكاتب، إذ تنحصر أفكار الأسير في مقام كهذا على تثبيت الذات وشد أزرها، ولمَّا كانت خلفية البطل جهادية إسلامية، كان منطقيا أن يتخذ حديثه لنفسه هذا القالب.
لكن ما يُشوِّش الأمر على القارئ هو "اضطراب الكاتب في أسلوب السرد، حيث يتحوَّل من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، فتجده يسرد القصة بضمير المخاطب، ثم نجده يتحوَّل من ضمير المخاطب إلى ضمير المتكلم، وبهذا تشعر بأن بين يديك سيرة ذاتية للكاتب وليس رواية أدبية"، وأشد ما يعيب تلك الطريقة، كما يقول "نافذ الشاعر"، هو سرد جميع الحوادث من وجهة نظر البطل دون التعرُّض للمشاعر الداخلية للشخصيات الأخرى، فيجد القارئ صورة خارجية لهذه الشخصيات، "أما الأحاسيس الزاخرة بين الضلوع وحنايا الصدور فلا يتعرَّض لها".[6]
مع هذا كله، تبقى الرواية عملا لغويا جميلا في كثير من صفحاته التي تطرَّقت بالوصف الجمالي البديع لمشاهد الحياة الفلسطينية ومشاعر عامر التي تختلج في صدره عندما يذكرها، وهو ما يُضيف للقارئ استراحة رقيقة بين تفاصيلها المرهقة المريرة التي أعطتنا ومضة فريدة عن العنف النفسي والابتزاز المعنوي الواقع على كاهل الأسرى في فلسطين. على كلٍّ، تحرَّر "الهودلي" رغم سجَّانيه، وتحرَّرت روايته رغم جدران محبسه، لكن "ستائر العتمة" تظل قائمة في سجون الأراضي المحتلة، على أمل أن تُزيحها الشمس يوما ما.