02-05-2022 08:55 PM
بقلم : م. أنس معابرة
هل حصل وأن دخلت على جدك وأنت قادم من السوق وقد إشتريت ملابس؟ ألم تلاحظ الصدمة على وجهه عندما عرف أنك قد إشتريت قميصين إثنين أو زوجين من الأحذية في نفس الوقت؟ ألم تلاحظ مقدار الضجر والتأفف الذي يبديه والديك وأنت تجلس الى جانبهم بينما تحدق في شاشة جوالك؟ ألم يترك أحدهم جلستكم أنت وإخوتك إحتجاجاً على عبثكم المتواصل في هواتفكم بينما يجلس هو مثل "الأطرش في الزفة"؟ الم يعقد أحد والديك أو أجدادك المقارنات المختلفة بين جيلهم وجيلك؟
يناقش الكثيرون صراع الأجيال، وما يبديه الجيل السابق من إمتعاض وتذمر من حال الجيل التالي، وكيف أصبح حالهم في ظل التقدم التكنولوجي الكبير، خصوصاً وقد توقف مستوى الإستيعاب لديهم عند حد معين، ولم يعودوا يطيقون آخر الصيحات والتطورات التكنولوجية.
الآن وقد تقدمتُ بالسن؛ أدركتُ حقيقة إعتراض جدي أو والدي على بعض تصرفاتي، أدركتُ أسباب تلك المقارنات التي طالما عقدوها بين جيلهم وبطولاته، وبين جيلنا وخيباته.
لقد إنتقل جدي الى رحمة الله وهو في العقد الثامن من العمر، وما زالت صحته جيدة، لم يكن يعرف الطريق الى المستشفيات أو المراكز الصحية، ولم يزر عيادة للأسنان، ولم يتغير مقاس ثوبه أو يتدلى "كرشه"، ولم يضع قطرة من الأصباغ على شعره، بل توفت جدتي رحمها الله ولم يكن في قائمة أدويتها سوى منظم للسكري أو الضغط اللذان ورثتهم عن والدَيها، ولم تسمع يوماً بنظام "الكيتو" لإنقاص الوزن، ولم تزر عيادة لتبييض الأسنان أو لتركيب "الفينير"، ولم تحقن وجهها ب"البوتكس" أو شفاهها أو جبهتها ب"بالفلر"، وأكاد أجزم أن بشرة وجهها لحظة وفاتها وقد تجاوزت الستين من العمر أنعم وأكثر حُمرة بكثير من وجوه "صبايا" اليوم التي عمل فيها "المكياج" الأفاعيل، وأصبحتَ لا تتعرف اليها بدون قناع ال"ميك أب" الذي يتضمن عدة طبقات للأساس والبودرة والتلميع، تماماً كدهان الجدران.
كان جيلهم لا يعرف إلا العمل والجد والمثابرة، يستيقظ في الصباح الباكر لصلاة الفجر والإفطار، ثم التوجه الى الحقول للعمل الى ما قبل موعد غروب الشمس، وبعدها تبدأ سهرة الأحباب والجيران والأصحاب، بعيداً عن الشاشات الملعونة من الهواتف والتلفاز و"الآي باد". في سهرتهم تلك يحلون مشاكل القرية، ويفكرون في مستقبلها، يتذاكرون الفقراء والسبيل الى مساعدتهم، وكيفية النهوض بأحوال البلد الى الأمام.
سهرات شباب وصبايا اليوم لا تتم إلا إذا كان "الواي فاي" من النوع القوي، والأراجيل منصوبة الى جانب كل منهم، وتلمع عيون كل منهم في شاشة تليفونه المحمول، ولا يكاد يحيد عنها إلا ليري لصاحبه شي ملفت للأنظار ووقعت عينه عليه.
كان الآباء والأجداد يكدون طوال اليوم في الحقول لجني محصول يكفيهم للعام القادم، واليوم الشباب يتمترسون خلف الشاشات على إختلاف أنوعها، من هواتف وألعاب "بلاي ستيشن" وتلفزيونات مسطحة، ليجنوا في النهاية خيبات أملهم وأمل ذويهم.
توفي جدي رحمه الله ولم يلبس غير الثوب العربي التقليدي الأصيل، ولا أذكر المرة الأخيرة التي شاهدت فيها والدي يرتدي بنطالاً وقميصاً، ربما كانت منذ أكثر من 13 عاماً عند تقاعده من عمله، ولكن شباب اليوم إستبدل ذلك اللباس المهيب ببناطيل ضيقة، و"شورتات" قصيرة تكشف عن أفخاذ تراكمت فيها الشحوم والدهون، ومن الواضح أن تلك الأقدام لا تعرف الى الرياضة سبيل. بل من المحزن أن أصبح ذلك اللباس العربي الأصيل موضع تندر وإستهزاء لدى الشباب، وأصبح الى جانب الكوفية والثوب النسوي المطرز "دقة قديمة"، نستخدمه للعرض في المتاحف والمعارض الفنية فقط، أو نرتديه في المناسبات كنوع من التميز فقط، مثله كمثل الثوب الهندي أو الصيني.
كانت لدى جدي رحمه الله قناعة بأنه من العيب أن يظهر مكشوف الرأس، بل كانت الكوفية (الغطرة) التي يعلوها العقال تزينه في جميع جولاته خارج البيت، وفي داخله كان يحافظ على لبس الطاقية (القحفية) حتى خلال النوم. اليوم أصبحت لا تفرق بين شاب وفتاة في الطريق، كلاهما يرتدي الجينز وال “تي شيرت" الضيقان، وإذا ما لجأت الى الشعر فلن تستطيع التمييز بينهم أيضاً، فالبنات يعتمدون الآن قصة شعر "بوي"، والشباب ينثرون شعورهم على أكتافهم، بل ويربطونها "ذيل حصان" في بعض الأحيان.
إذا أراد جيل ال"دقة" القديمة اللعب واللهو؛ كانت لعبة "الطاولة" حاضرة في كل منزل، وفي صغرهم لعبوا "دق الحابي" و"نط الحبل" و"الغماية" و"السبع حجار والسبع جور" و"طاق طاق طاقية"، و"الحجلة" و"البوكس"، والسلم والثعبان وربما أدركوا "الأتاري". لا يعرف شباب وأطفال اليوم سوى تلك الألعاب على "البلاي ستيشن" و"الآي باد"، والتي قد تجد فيها كافة أشكال التدمير والهجوم والقتل والإعتداء، ولكنك مهما بحثت فلن تجد لعبة واحدة تعليمية أو تثقيفية.
جدي كان يعرف جميع أهل القرية، صغيرهم وكبيرهم، وإذا لم يعرف أحد الأطفال في الشارع فسيعرف أباه من فراسة نمت لديهم، وإذا شاهد رجلاً غريباً في الشارع أوقفه وسأله عن وجهته، وساعده ما أمكن. الأولاد في الحارات كانوا يعرفون بعضهم أيضاً، يلعبون سوياً ويخاف أحدهم على جاره كما يخاف على أخوته، لم نعد نسمع جملة "هذا أبن حارتي". اليوم الأطفال لا يعرفون بعضهم البعض، حتى لو كانوا يسكنون البناية نفسها، إقتصرت معرفتهم على هؤلاء الأصدقاء الإفتراضيين عبر ألعاب القتل والدمار وغرف الدردشة و"جروبات الواتس"، بل حتى أصبح الجار لا يعرف جاره، ولا يهنئه في فرح أو يشاركه في ترح أو يعوده في مرض، ويمر بجانبه ولا يلقي عليه السلام.
حتى الفترة الأخيرة من وفاة جدي رحمه الله كنا بعد صلاة الفجر نذهب الى "الحاكورة" التي امتلأت بكافة أنواع النباتات، أشجار الزيتون والرمان والليمون، ويتوزع بين الأشجار أحواض للنعنع والبقدونس والجرجير والرشاد والفول الأخضر، والبازيلاء، والفاصولياء، والبطاطا، والبصل الأخضر. وفي نهاية الموسم يتبادل الجميع المحاصيل؛ فأحدهم يأخذ القمح ويعطي الشعير، والآخر يعطي البندورة ويأخذ البصل وهكذا.
اليوم أصبحت "الحاكورة" مقهى للأراجيل وشرب القهوة و"الميلك شيك"، وأصبح غذاءهم وجبات ال “هابي ميل" وال “سناك بوكس" و"السباجيتي" و"اللازانيا"، وإستبدلوا مشروبات الميرمية والشيح والشاي الأخضر ب “الإسبريسو" و"الموكا" و"اللاتيه" و"الأيس كوفي" و"الأيس تي".
كانت الأقدام هي وسيلة المواصلات المتاحة، وركوب الدواب في بعض الأحيان لقصد الأماكن البعيدة، وكنوع من الرفاهية، وللقرية باص واحد فقط ربما يمر كل ثلاث أو أربع ساعات، واليوم أصبح السكوتر الكهربائي وسيلة للذهاب الى المدرسة، ولا يخرج أحدهم من بيته إلا بعد أن يصل السائق الى الباب، ويخبره عبر التطبيقات الذكية أنه قد وصل.
أنا لا ألوم شباب اليوم وأطفاله على التكنولوجيا الحديثة التي يستخدمونها، بل وأشجعهم على إستخدامها، ولكن مع المحافظة على كل العادات الطيبة التي ورثناها عن آبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا.
لا ألومهم على وسائل المواصلات المريحة الحديثة، ولكن يجب أن يحافظوا على لياقتهم وصحة أبدانهم من خلال ممارسة الرياضات والحركة، وألا تقتصر نشاطاتهم الرياضية على متابعة مباريات كرة القدم عبر الشاشات.
لا ألومهم على أصناف الطعام الجديدة والدخيلة على قائمتنا، ولكن ألومهم على إنتقاصهم من وجبات الآباء والأجداد التي أعطتهم الصحية والعافية، وماتوا وهم لا يشكون السمنة والنقرس، والديسك، وألم الأعصاب، والسرطان، وخشونة الركبة.
لا ألومهم على مستجدات العصر من ملابس تتضمن البناطيل والقمصان والبدلات الرسمية، ولكنني ألومهم على سخريتهم من اللباس العربي التقليدي الأصيل الذين زين أبائنا وأمهاتنا على مدى قرون طوال.
لا ألومهم أن شقتهم لا تحتوي على "حاكورة"، ولكنني ألومهم على عدم تمييزهم للبقدونس من الكزبرة، أو جهلهم بالرشاد والبصل الأخضر وكيفية زراعته وفوائده الجمة.
إن أكثر ما يعتصر فؤادي ألماً هو كيف سيواجه الجيل الجديد الأيام القادمة، وقد أصبح أرزهم من أمريكا، وقمحهم من روسيا، وشايهم من سيلان، وقهوتهم من البرازيل، ووجبات طعامهم من ماكدونالدز وكنتاكي وبيتزا هت، ولباسهم من إيطاليا، وأدواتهم من الصين، في حين كان جيل "الدقة" القديمة يأكل مما يزرع، ويلبس مما يخيط.