حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الثلاثاء ,24 ديسمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 13159

النقد الانطباعي: ما له وما عليه

النقد الانطباعي: ما له وما عليه

النقد الانطباعي: ما له وما عليه

07-05-2022 09:19 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : أسيد حاتم محمد الحوتري
بعد فجر أحد أيام عام ١٩٧٢، كان الرسام الفرنسي (كلود مونيه) (Claude MONET) يراقب شروق الشمس من شرفته المطلة على ميناء (لو هآفر) ((Le Havre الفرنسي. أثار ذلك المشهد الأخّاذ أحاسيسا ومشاعراً قوية في نفس الرسام، فتناول فرشاته وألوانه، ورسم ذلك المشهد كما انطبع في نفسه لا كما كان على الحقيقة؛ فخرجت من بين أنامله لوحة أطلق (مونيه) عليها اسم: (انطباع، شروق الشمس) (Impression, Soleil Levant)، تلك اللوحة التي غابت عنها التفاصيل واكتنفها الغموض، ولم يظهر فيها إلا ضربات صغيرة لفرشاة الرسم أبرزت الخطوط العامة للمشهد، وتدرّجات ألوان ابتعدت باللوحة تماما عن الواقعية. مع ذلك فقد زخرت اللوحة بفيض من مشاعر وأحاسيس وانطباعات (مونيه) عن المشهد الذي رسمه. ومع هذه اللوحة خرجت إلى المشهد الفني العالمي مدرسة فنية جديدة أطلق عليها اسم: المدرسة الانطباعية (Impressionism)، والتي انبثق منها فرع في الأدب وفرع في النقد.
لقد ظهر النقد الانطباعي (Impressionistic criticism)في الوطن العربي بعدة أسماء منها: النقد التأثُّري، النقد الذاتي، النقد الإنفعالي، النقد الذوقي. مع ذلك، أنه من الصعوبة بمكان أن يعد النقد الانطباعي منهجا نقديا لأنه يفتقر إلى المعايير والمقاييس والأدوات النقدية، فلا يقوم هذا النقد إلا على الاصغاء إلى صوت نَفْس الناقد، ثم يصف تلك الأحاسيس والمشاعر المنطبعة فيها بعد الانتهاء من تلقي الأثر الأدبي.
إنّ النقد الانطباعي قديم قدم التاريخ، ومرافق لكل النتاجات الثقافية الفنية منها والأدبية على مر العصور، إلا أنه عاد ليتصدر المشهد النقدي من جديد في آواخر القرن التاسع عشر بعد لوحة (انطباع، شروق الشمس). وكانت عودة النقد الانطباعي إلى الظهور من جديد كردة فعل طبيعية على انتشار مناهج النقد السياقية: التاريخية والاجتماعية والنفسية والتي بحثت عن معنى النص في سياقاته الخارجية. ولأن النقد الانطباعي قام على فكرة أن الفن انفعال، كما أكد الكاتب الإنجليزي الإيرلندي (أوسكار وايلد) (Oscar Wilde)، فلقد عاد النقد الانطباعي ليؤكد على أن قيمة العمل الأدبي تكمن في نوعية وكمية الأحاسيس والمشاعر والخواطر والانطباعات التي يثيرها الأثر الأدبي في نفس المتلقي. هذا وقد رفض النقد الانطباعي فكرة المناهج النقدية الأخرى التي تقول بأن قيمة العمل الأدبي مرتبطة بمعنى النص والذي تبحث هذه المناهج النقدية عنه داخل النص تارة وخارجه تارة أخرى.

وللنقد الانطباعي، حاله كحال كل أشكال النقد، إيجابيات وسلبيات. ولعل أهم إيجابياته ما يأتي:
١. جسر الهوة بين الناقد المختص وبين عامة القراء: مما لا شك فيه أن احتراف النقد الأدبي ليس بالأمر المتاح للجميع، فهذا أمر يحتاج إلى ثقافة واسعة إلى ووقت طويل ومضني من الدراسة والبحث. لذلك لو ترُك النقد للنقاد المتخصصين (المضطلعين) فقط لتحولت الساحة الأدبية إلى ساحة طبقية يبقى فيها القارئ بصفته متلقٍ للنصوص الأدبية ومستمع لآراء النقاد، ولكن النقد الانطباعي منح القارئ فرصة للحديث، فبواسطته يستطيع القارئ أن يدلو بدلوه فينقد النص ويبدي رأيه به سلبا أو إيجابا معتمدا في هذا النقد على الأحاسيس التي انطبعت في نفسه أثناء وعقب انتهائه من القراءة.

٢. فتح باب المشهد الأدبي والنقدي أمام عامة الناس: سهولة النقد الانطباعي المتمثلة بوصف الأحاسيس بعد الانتهاء من قراءة النص الأدبي تشجع القراء على الولوج إلى عالم النقد والأدب، والدخول في حوارات ونقاشات أدبية ونقدية. ولعل أفضل مثال على مشاركة عامة الناس في الجلسات الأدبية وانخراطهم في النقد هي نوادي الكتاب حيث تناقش قصص وروايات وكتب وتُنقد نقدا انطباعيا في الغالب.

٣. استقطاب القراء إلى مناهج النقد الأخرى: إن القارئ العادي الذي يشارك في مجموعات أدبية بنقده الانطباعي سيتعرف عاجلا أم آجلا على قراء آخرين مطلعين على مناهج نقدية مختلفة ينقدون النصوص وفقا لها. قد تثير هذه المناهج المتعددة فضول الناقد الانطباعي وتشجعه على الاطلاع عليها أو التعمق فيها، وهكذا قد يتحول الناقد الانطباعي إلى ناقد مطلع/هاوٍ أو إلى ناقد مضطلع/محترف.

٤. حمل لواء النظرية الفن للفن: النقد الانطباعي يؤكد ما تقول به نظرية الفن للفن ((Art for art's sake والتي تصر على أن رسالة الفن هي امتاع المتلقي بجمال العمل الفني. والنقد الانطباعي يصف المشاعر والمتعة التي وقعت في نفس المتلقي خلال وبعد الانتهاء من التأمل في جمال النص الأدبي، وهذا بعكس مدارس أدبية أخرى تصر على أن الأدب يجب أن يحمل هم المجتمع وأن يعالج قضاياه، ولذلك يتحتم على الأدب أن يحمل رسالة تربوية أو إرشادية أو تحرّرية أو حتى علمية، وما إلى ذلك من رسائل.

٥. عتبة النقد المنهجي: النقد الانطباعي لا يمكن تجاوزه أو التغاضي عنه لأنه أول نقد يحصل في نفس الناقد المنهجي، ثم ينتقل الناقد من الانطباع إلى أي منهج نقدي آخر. وعندما يصغي الناقد المحترف إلى مشاعره وأحاسيسه أثناء وبعد الانتهاء من قراءة النص الأدبي سيتمكن دون شك من تحديد المنهج النقدي الذي ستأخذه مشاعره إليه. فلو أثار نص ما في نفس الناقد مشاعر الحزن والأسى على امرأة تعاني وتُقمع من قبل المجتمع، ستقود هذه المشاعر الناقد إلى اتباع منهج النقد النسوي (feminist criticism) في تحليله للنص.

أما سلبيات النقد الانطباعي فتتمثل بما يلي:
1. إصدار أحكام عامة: يصدر الناقد الانطباعي أحكاما عامة تفتقر إلى التبرير والتعليل وذكر الأسباب، كأن يقول الناقد: "إنها حقا رواية رائعة وماتعة"، أو "خيبت هذه القصة القصيرة ظني وأضاعت وقتي"، أو"قصة مملة للغاية وتخلو من أي تجديد"، وهذه كلها أحكام عامة يعوزها التعليل والتبرير، فلماذا كانت الرواية رائعة؟ ولماذا خيبت القصة القصيرة ظن الناقد؟ فلا تعليل ولا تبرير.

2. إصدار أحكام جزئية: لا يتناول النقد الانطباعي النص كاملا بل جزء منه أو أجزاءً قليلة جدا وهذا يظلم العمل الأدبي والجهد الكبير الذي بذله الكاتب في سبيل إخراج عمله إلى النور. فعندما يقول الناقد الانطباعي:
" موضوع الرواية متكرر فقد كُتبت آلاف القصص عن الحب"، نجد هنا أن الناقد قد أشار إلى ثيمة الرواية فقط وبعجالة وأهمل التطرق للشخصيات، وللمكان والزمان، والحبكة، والرواي، واللغة، وأسلوب الكاتب، وجو النص، وما إلى ذلك من عناصر السرد.

3. إصدارأحكام موجزة: غالبا ما تكون الأحكام الصادرة عن الناقد الانطباعي أحكاما موجزة لا تفصّل ولا توضح. فقد يقول ناقد انطباعي بأن "الرواية كانت ماتعة ومشوقة جدا"، هذا حكم موجز لا يذكر فيه الناقد الأحداث التي جعلت من في الرواية رواية ماتعة، ولم يوضح الناقد فيه عناصر التشويق في الرواية.

4. إصدار أحكام سطحية: بعض الآثار الأدبية تكون عميقة وخصوصا الفلسفي منها، لذلك تكون معظم الأحكام الصادرة بحق رواية فلسفية، مثلا، تكون أحكاما سطحية، لأن القارئ العادي يعجز عن فهم الفلسفة الكامنة في النص، ولعل رواية (الغريب) أفضل مثال على ذلك، فأحداث الرواية مملة لأي ناقد انطباعي غير مطلع على الفلسفة العبثية، بينما الناقد المتخصص والمطلع على فلسفة (ألبير كامو) Albert CAMUS العبثية سيجد متعة كبيرة باكتشاف القواعد التي قامت عليها هذه الفلسفة، كما أنه سيستمتع باكتشاف صفات الرجل العبثي التي وضحها الكاتب في الرواية.

5. أحكام مزاجية: أحيانا يتم استغلال النقد الانطباعي استغلالا سلبيا بحيث يتم إصدار أحكاما قاسية على النص الأدبي الهدف منها مهاجمة الكاتب والإساءة إليه لأسباب متعددة. وقد يُسخّر النقد الإنطباعي لمجاملة الكاتب وكيل المديح له إن كان صديقا أو قريبا.

6. عدم الالتفات إلى معنى النص: قد تحمل النصوص الأدبية أفكارا سلبية أو عنصرية خفية تخاطب لاشعور القارئ ولا يلتفت إليها الناقد الانطباعي أبدا. قد نكون أمام نص يحقّر من المرأة، أو يهزأ بشعب ويعلي من شأن شعب آخر، أو يستهزأ بطبقة العمال ويمجد أصحاب رؤوس المال. لا يلتفت النقد الانطباعي إلى كل هذه الرسائل الخفية التي تأتي غالبا في سياق السرد، ويكتفي بوصف أحاسيس الناقد، وهذا يجعل القارئ فريسة لغزو ثقافي. أما لو كان الناقد مطلع على مناهج النقد الأدبي لاستخدم النقد النسوي في مواجهة أي عمل أدبي يتعرض للمرأة، ولواجه بالنقد الماركسي/الاجتماعي النص الذي يتعرض للطبقة العاملة، ولتصدى بالنقد الما بعد كولونيالي للنصوص التي تمجد شعوب وتحتقر شعوبا أخرى.

7. عدم الالتفات إلى شكل النص: جهد كبير يبذله الكاتب في خلق انسجام وتناغم بين مضمون النص وشكله، فيشتغل الكاتب على الأصوات في النص، وعلى الصرف، والنحو، وحجم الجمل، والفقرات، والترقيم ليجعلها في انسجام مع مضمون النص، مع ذلك لا يتطرق النقد الانطباعي لهذا الجهد لأن عين الناقد الانطباعي لم تتعود على رؤية هذه التفاصيل وربطها مع مضمون النص. في حين أن النقد الشكلاني والبنيوي والحديث يقوم بهذا التحليل اللغوي ويدرس كل ما سبق ذكره.

وهكذا نكون قد تعرفنا على مفهوم النقد الانطباعي واطلعنا على إيجابياته وسلبياته؛ وخلاصة القول إن النقد الانطباعي يكون في أبهى صوره إن كان الخطوة الأولى في النقد، على أن يتبعه نقد منهجي يعلل ويفسر ويوضح ويشرح الأسباب التي خلقت في نفس الناقد تلك المشاعر والأحاسيس والانطباعات أثناء قراءة النص الأدبي وبعد الانتهاء منه.











طباعة
  • المشاهدات: 13159
لا يمكنك التصويت او مشاهدة النتائج

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم