15-05-2022 02:54 PM
بقلم : الدكتور احمد الحسبان
في الحقيقة لا أعرف من هو السيد مِصلح، لكني اتذكر ملامح وجهه جيداً، كان يملك روفر حضراء اللون ذات سقف ابيض اللون، موديل ١٠٨ وربما ما قبله، كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، وكانت روفر مصلح تعتبر البديل الفوري لأي مشوار طارىء لأهل قريتنا خارج خطة عمل باص (ج. خ. ) اطال الله في عمره، يعني بعد انتهاء الرحلة اليومية المبرمجة مرة صباحا ومرة مساء، والتي كانت تشمل قريتنا والقرية المجاوره لها معاً، بالرغم من وجود بدائل أخرى، الا ان روفر مصلح كانت بجاهزية عالية كسيارة وكسائق. يعني مثلا تركتور (م. ف) كان جيدا، لكن يبقى مكشوفا وبطيئاً نسبياً، بالعكس من مرسيدس العم (خ. ع. رحمه الله )، موديل ١٨٠ او ١٩٠ التي كانت فارهة وسريعة، لكن ليست دائما متوفرة لانشغال العم (خ) رحمه الله بشؤون أخرى كرحلات العمرة أحيانا، واعمال الزراعة بالغالب، فهو الوحيد الذي كان يملك تركتور للحراثة، والباقي يحرث على سكة وعود وبهايم، المهم نرجع لروفر مصلح. فهي البديل الرئيس لباص ج. خ، لكن الامر لم يتعلق ببديل لمشوار طارىء فقط، بل كان اكبر من ذلك.
اتفق الوالد رحمه الله مع مصلح لتدريبه على سواقة الروفر مقابل الثمن، تمهيدا لشراء بكب ستاوت، هذا البكب العظيم الذي سيحل محل الحمار الصليبي، وحيث كان الوالد يستخدم هذا الحمار المسكين في الاحمال الزراعية واحمال خشب الطوبار، ونقلها ذهابا وايابا بين القرى، والذي بلغ من العمر سنا لم يعد يستطيع فيه تلبية احتياجات الوالد الكثيرة، لذا تم بيعه لاحقاً بخمسين دينار لمزارع آخر في قرية مجاورة لا أتذكر اسمه. كان السيد مصلح يأتي بالروفر لباب الحوش عصرا لتدريب الوالد على السواقة بعد ان يتجاذبا اطراف الحديث حول قواعد السواقة محتسين شاي العصر بالنعنع، وكنت استرق السمع حول بعض المصطلحات الجديدة مثل: القير، الكلتش، دواسة البنزين، البريك، وكانت جديدة غريبة، لأن دروس اللغة الانجليزية كانت تبدأ بالصف الخامس، وليس من الصف الاول كما هو الان، لذا البريك تعني الفرامل مثلا، لكني لم افهمها أنذاك الا بعد اربع سنوات وربما بعد، لكن كنت اعرف انها توقف السيارة. وبدأ التدريب، وكنت فخورا ان أرى والدي يسوق مكان مصلح، مع اختلاف المهارة بالسيطرة على ذلك الحصان الحديدي الرهيب.
مر زمن واستطاع والدي اجتياز متطلبات السواقة الفردية بدون وجود مصلح بجانبه، بعد ان اطمأن السيد مصلح على مقدرته العملية على ذلك، فشهادة مصلح تعني اجازته المطلقة بذلك، فكان يمثل دائرة ترخيص معتمدة، وبما ان الروفر سيارة قديمة، وبتكنولوجيا قديمة، فكان دورانها يحتاج محيط دائرة اكبر من المرسيدس او باص ج. خ، ولاحقا علمنا ان زاوية الدوران لها لا تتعدى ٣٠ درجة مقارنة مع ٤٥ لغيرها، الا ان التدريب على الأصعب يضمن سواقة الاسهل، هكذا كان مصلح يقنع والدي على الاقل، ربما ليستمر بالتدريب على روفره، وكنا صغارا وقتها، وكانت متعة الركوب بالسيارة اثناء التدريب لا تضاهيها متعة - بشرط التزام الصمت والهدوء، على الاقل كانت مريحة أكثر من ركوب الحمار، وخاصة عندما نكون بوضعة راكب رقم ٢، لا يرى امامه الا ظهر اخيه، ويتمسك جيدا بقميصه وربما يحيط ببطنه كاملا بطريقة العبط الاجباري، وربما يتعرض للسقوط عند اول تقويمة فجائية للحمار جراء النخس الابتدائي ايذانا ببدء المسير، وبالذات عندما لا يستجيب الحمار لكلمة (حااااا)، حيث ينخس بمسمار على مفرق رقبته عند المصلبة في تلك المنطقة من قبل راكب رقم ١ الامامي. المهم كانت متعة سواقة الروفر والركوب فيها شيء خيالي ننتظره كل عصرية مع كل تدريب. وكانت سيارة جبارة قليلة الحوادث لم نسمع انها انقلبت على عقبيها، او أنّت من حملها رغم ثقله، كانت أصيلة كما كان سائقوها، رجال الماضي العريق.
مرت الايام واشترى والدي بكب ستاوت ازرق اللون، بكب (الجحش او الجينيور) كما يسمونه الان، غمارة واحدة وبخمس شناكل، وبدأ يعمل عليه بدون رخصه، سوى كلمة مصلح (انت هسع شوفير)، ولكون كل تنقلاته بين قرى بعيدة عن مرأى ومسمع شرطة السير، الى ان انتقلنا للمدينة، فاضطر الى الحصول عليها بعد عدة محاولات فاشلة، ولكنه بالنهاية احتصل عليها بجدارته رحمه الله، الا ان طريقة سواقته كانت غريبة ومخيفة بنفس الوقت، لا زلت اتذكر كيف كان يحرك القير - ناقل التروس - من الاول للثاني فالثالث بطريقة الخطف مع الكلتش وخاصة اثناء طلوع القرية قبل مدرسة البنات، فكان يعض على الشماغ ونظره محدق للأمام بشدة، وجسده متأهب للأمام، ويتحرك باتجاه المقود اذا ما تحركت السيارة، وكأنه فعليا يركب الحمار، لقد كانت هرمونات اجسادهم متعودة على ذلك فعليا، فالتحول من العصر الحميري الى العصري الحديدي كان نقلة نوعية بالنسبة لهم، تماما مثل تحولنا من هواتف القرص الى الهواتف الذكية حاليا، بل اصعب من ذلك بكثير، وخاصة انهم لا يقرأون ولا يكتبون وقتها، فهم ضحايا سياسة التجهيل التركية آنذاك، حتى انه كان يكره التوقف بمنتصف الطلوع، واذا ما صادفه احد الاقارب للسلام كان يكمل الطلوع ويقف ويعود اليه ماشيا للسلام، ليتفادى تقويم الطلوع من اساسه، وللامانة لا زلت اخاف من تقويم الطلوع لغاية الان من شدة وقع فوبيا الوالد منها وقتها، (اخاف تهور السيارة بحدا الوديان).
كانت والدتي رحمها الله تضع الخرزة الزرقاء مع مسبحة زرقاء في علاقة مرآة الوسط، ظنا منها انها تحمي من العين والحسد، مع ان لون السيارة ازرق ايضا، لكن هذا التقليد متبع بهذا الشكل، وكانت تضع سجادة صلاة على الكرسي الذي كان قطعة واحدة تشمل السائق والراكب والوسط، يتسع لثلاث او حتى اربعة اشخاص، ناهيك انه يمكن اركاب ولد صغير على يسار السائق ايضا، والباقي - حسب العمر - بالصندوق الخلفي، وكان العجل الاحتياط على التندة العلوية، وبجانبه الجيك ومفتاح الجنط، وقلن ماء ملفوف بالخيش المبلل بالماء، ليبقيه باردا للشرب، كم كنا فرحين بامتلاك تلك البكب الستاوت الزرقاء، نفرح كثيرا عندما يأتي والدي بالمساء، وصوت جنازير الباب الخلفي تصدح بموسيقى ذات ايقاع يتبع طيات الطريق الترابي المؤدي لغاية باب الحوش من خلف مدرسة البنات، كان ايقاعا رائعا نسمعه منذ بداية نزول السيارة من اخر الشارع المعبد، ونصيح (ابويا اجا ابويا اجا).
ولنا نحن الابناء فيها مآرب أخرى؛ كان التلفزيون الاحمر الصغير ابيضا واسودا، يعمل على بطارية مثل بطارية السيارة، وكنا نستخدم بطارية السيارة عندما توشك بطارية التلفزيون على الانتهاء من الشحن، فتصغر الشاشة وتغيب الى ان تتلاشى، لكنا نكمل ذلك المسلسل بأية طريقة، رغم ان الثمن هو تعشيق السيارة بالدفع في الصباح الباكر - مع بعض كلمات التوبيخ من الوالد رحمه الله، واحيانا بعض التهكم، (دزو السيارة بالبرد مشان تكملوا السهرة - اللي وده يسكر لا يعد قداح). كان مرحا بحزم، حادا بلطف، جادا بهزل، لم نكن نفهمه، راضيا ام غاضبا ام كليهما.
خلاصة القول؛ مرت الايام، وكان مِصلح هو سبب التحول الثقافي لعصر الماكنه، كان السبب المباشر بعد الحاجة للاستقلالية عن باص ج. خ. وباقي البدائل، والاستغناء عن رتابة ومحدودية التنقل بالباصات، كانت كلمات مصلح الواثقة بالتدريب توحي انه هو المصنع لتلك الروفر، وكانت توجيهاته دستورا ملزما لاتباعه، كانت قد ادت الغرض لأدنى متطلبات مهارة السياقة، وكنا نثق بها على العميان، لم تكن اساسيات مصلح كثيرة أو منمقة، لكنها كانت كافية لتؤدي الغرض من ذياك التحول والتطور، الا انه مع مرور الزمن ظهر مصلحون كثر وبنظريات كثيرة، لكنهم ذوو كلام كثير وفعل قليل، لم تكن نظرياتهم - مفيدة بصدق - كبضع كلمات من مصلح الأول رحمه الله وادخله فسيح جناته .