17-05-2022 08:39 AM
سرايا - من المعروف أن القصة، قصيرةً كانت أم طويلة، تقوم كتابتها على ثلاثة أركان. أولها المؤلف، وثانيها الراوي – السارد- والثالثُ هو القارئ. فالمؤلف ينبغي ألا يظهر فيها مباشرة، والقارئ هو ذلك المتلقي الافتراضي الذي شُغل المؤلف بتوجيه الخطاب السردي إليه طمعًا في اجتذابه لمتابعة النصّ، والاستمرار في القراءة، مع التأثير فيه. والراوي، أو السارد، هو شخصٌ آخرُ مستقلٌ عن المؤلف، منفصلٌ عنه، وإن كان في حقيقة الأمر من اختراعهِ.
فالكاتبُ الذي يكتب قصصًا عدّة لا يمكن أن يضطلع براوية هذه القصص من حيث هي حوادثُ، ومجرياتٌ عاشَها، أو شَهدها، أو شارك فيها، لا سيما إذا كان السرد يتضمن وقائع حدثت في الماضي السحيق، أو في أمكنة غير موجودة إلا في الخيال، كقصص العجائبِ، والخوارق.
ولهذا يختار المؤلفُ راويًا على وفْق المخطَّط السردي، إذ ينبغي له أن يكون قريبًا من الشخوص، لصيقا بهم، حتى لو كانت شخصياتٍ تاريخية مثلا، أو من عالم الخوارق (فانتازيا) Fantasy أو حتى من عالم الحيوان(1). وقد وُصف الراوي بعبارة story teller وأدق كلمة عربية تقابل هذا التعبير هي كلمة « حَكَواتي « لأنّ الحكواتي هو من يروي الحكايات، لا أكثر ولا أقلّ. وهذه التسْمية تقوم على فرضيَّة مفادُها أن الحكاية تمثل العمود الفقري للقصّة، ولكنَّ بعض القِصص قد تخلو من الحكاية، إذ يكتفي بعض الكتاب بمشهدٍ يتألف من سلسلة شرائح وصفية لا تتضمَّن سوى القليل من السرد الذي لا يؤبه له. وفي هذه الحال تكون القصة قصة ضعيفة، لا مزية فيها، ولا تشويق. وهذا هو مأزقُ الكثير مما يُنشر تحت مُسمّى القصة القصيرة جدًا.
ونظرًا لخطورة السارد في القصة، وتبعًا لما يتجلى في الكثير من الأعمال القصصية، وجد الدارسون للسارد ثلاثة أقنعة تُخْفى مراوغته، وتقلباته. أحدُها أنْ يكون مشاركًا في الوقائع، ضالعًا في الحوادث، وفضلا عن ذلك هو الراوي لما جَرى. وقد وُصف هذا النوع من الراوي مجازًا بالكاتب الضمني Implied author أي أنه كاتبٌ مُتخيَّل يبتكرهُ المؤلف لينوبَ عنه في الكتابة والتأليف. ويصفه بعضُهم بالسارد المُمَسرح Dramatized narrator أي أنّ له دورًا في تمثيل الحكاية في النصّ القصصي كدور الممثل في العَرْض المسرحي.
ولهذا النوع من الرواة فضائلُ لا نجدها في غيره. فهو ينشيءُ علاقةً مباشرة مع القارئ في غياب المؤلف الحقيقيّ. وبتكرار استخدامه ضمير المتكلِّم يُضفي على الوقائع المحكيّة مصداقيَّة أكبر، وعلى المتَخَيَّل السردي صفة الاعتراف، أيْ أن ما يروى من الحوادث وقع فعلا وليس بالشيء المتخيل، وإنما هو شيءٌ حقيقي. بَيْدَ أن لهذا النوع خطرهُ أيضًا، فهو يوهم المتلقي، في الكثير الجمّ من الأحيان، بأن الوقائع جرت للمؤلفِ نفسِه، وأن القصة جزءٌ من سيرته، وذكرياته، مع أنَّ هذا ضربٌ باطلٌ من الظنّ. علاوةً على أنّ الثقة بهذا الراوي مشكوكٌ فيها؛ فقد تبدو آراؤه في الشخصيات الأخرى في القصة التي يرويها منحازةً، وغير نزيهة، وتفسيرهُ لبعْض التصرُّفات، أو الوقائع، ليست بريئة من الأنانية، والإثرة.
الساردُ المعْلن:
ففي قصص « رمادي داكـنٌ « للكويتي طالب الرفاعي (دار السلاسل، الكويت، 2019) يجد القارئ عددًا غير قليل من القصص التي يغلبُ عليها هذا النوع من الراوي. ففي «لحيةٌ وشاربٌ « نجد الساردة سيدة متزوجة من رجلٍ يهتمّ بذقنه، وشاربيه، أكثر من أيّ شيء آخر. ذلك لأنه يعتقد أن الرجولة تكمن فيهما، وأن الرجل بلا لحية، وبلا شاربين كثّين، لا بد من الارتياب في رجولته. ومن هذا الباب يجد لنفسه حقًا في أن يرغم زوجته على ارتداء الحجاب، والنِقاب. وتذعنُ الساردةُ نتيجة الضعف الذي نشأت عليه الأنثى وسط الكثير من العادات، والتقاليد، والمفاهيم الدينية الخاطئة، والتربية السيئة المتَحَجّرة. بيد أنها تثور عندما يطلب منها الذهاب إلى البنك لتطلب قرضًا من بضعة آلاف ليبتاع بها سيارةً جديدة يتباهى بها، ويزهو، أمام أصدقائه، ورفاقه في الوظيفة، فسيارته أصبحت قديمةً « خُرْدة «. والسؤال الذي يشجّع الساردة على التمرُّد لأول مرة هو: كيف يجرؤ على هذا، وهو الذي لا يفتأ يعتزّ بلحيته، وشاربيه، علامتي الرجولة، والفحولة، ولا يخطر له ببال أنّ الاعتماد على راتب الزوجة يطْعنُ في تلك الفُحولة، ويتناقضُ مع معايير هاتيك الرجولة.
وتبلغُ الساردةُ ذروةَ الغضب من هذا الزوج عندما يرفض عرْضَها، وهو أنْ تشتري هي السيارة لا هو، وتقدمها له مقابل تحريرها من الحجابِ، والنِقاب، وزاد على ذلك الرفض حدّةً أنْ « طارت كفّه ليصفعني على خدي. تلاقتْ نظراتُنا.. فصرختُ به .. أكرهُك « (ص16)
فما الذي يؤكد لنا أنَ ما ترويه الساردة - ها هنا - عن الزوج، ورأيه في الرجولة، وأنها فعلا تتمثل فيما يمتلكه من شارب كثٍّ، ولحية كثيفة تغطي صدرهُ، شيءٌ صحيح؟ ألا يمكن أن يكون فيما تراه ضربًا من التحامل الخفيّ؟ لا سيما وأنها ليست على وفاق معه، بدليل أنَّ يده أمتدت إليها بصفعة دفعت بها للتصريح بكراهيته. والكراهية علّة كافية لاستبعاد النزاهة، والصدق الموضوعي، عما ترويه السيدة عن زوجها، وما يتصل به من تأويلات. ومما يزيد الطين بِلّة أنَّ الساردة أفادتنا في نهاية القصة بقبوله العرض، وإذعانه، ضاربًا عُرض الحائط باللحية والشاربين.
ويتكــرَّر هذا الضرْبُ من الرُواة، أيْ الراوي المشارك، المعلن، الذي يُصرّح بدوره في الحكاية، في قصة بعنوان « قرْبَ المدخل «. إذ يبدأها طالب الرفاعي بالقول على لسان الشخص الذي يُفْترضُ أداؤه دور البطولة في القصة: « جالسٌ في مكتبي. الاجتماع ينتظرني. رجل الشاي والقهوة.. يطرق الباب. صباح الخير. « (ص19) تتطلب الحكاية مثل هذا السارد، كون هذا المراسل، أو الفرّاش، يريد أن يقول شيئا لمديره، بيد أن هذا يستعجله، ويضيق ذرعًا بتردُّده. فالرجل يذكر اسم ابنه الوحيد تارة، ويذكر عمْرَهُ تارة، وأنه طالب في الجامعة، وقد أمضى ثلاثَ سنواتٍ في الدراسة، ولم يتبقَّ لتخرُّجه الكثير. وهذه الطريقة القائمة على التردّد و(اللجلجة) في الحوار تستفزّ المدير الذي ينتظرهُ اجتماع، فيقول لنفسه « ربما يريد مني مساعدةً مادية ما.. سأعطيه مبلغًا وأطْرُده « وهذا الملفوظ النفسي- إذا جاز التعبير - من حزمة السمات الأساسية التي يختلف بها الراوي المشارك عن سِواه. وما إنْ همَّ بتقديم ورقة من فئة الخمسة دنانير للمراسل حتى صُدمَ المدير المتعجرف بالحقيقة، وهي أن الرجل أراد أن يقول: إن ابنه قُتل في حادث سير مروريٍّ أمام مدخل الجامعة، وأنه في حاجةٍ لمن يعزّيه (ص21).
وفي هذه القصة، كالتي قبلها، شيءٌ مما ينتقصُ ثقتنا بالراوي. فقد بدا لنا متحاملا على رجل القهوة والشاي، فمن البداية لا يطيق الاستماع إليه كي لا يتأخر عن الاجتماع، وتناسى هذا السارد أن تناول القهوة يحتاج لبعض الوقت الذي ينبغي ان يمرّ قبل الذهاب للاجتماع، ولهذا لا مُسوّغ لوضعية الضجر، والاستفزاز، التي بالغ في الحديث عنها، وهو يُصغي لذلك المسكين الذي ثُكل بابنه الوحيد. على أنَّ موقع الراوي- ها هنا- يغفر للمؤلف هذه الصفة في سارده، فلعل المؤلف الرفاعي أراد أن يوحي بطبع من طباعه، وهو الكبرياءُ الزائف.
السارد الخفيّ:
وعلى الرغم من أنّ هذا السارد يطّرد ظهورُه، ويتواتر في مروياته اسْتخدامُ ضمير المتكلم، إلا أنَّ بمقدور المؤلف أنْ يوظف راويًا مشاركًا له موْقعه في الحكاية، مستخدمًا ضمير المخاطَب، لا المتكلّم. وهذا النوع نادرٌ في القصة، والرواية، ندرَةً شديدة. إلا أنه مع ذلك متواترٌ. ففي قصّة « قطٌّ صغيرٌ « من مجموعة الرفاعي، يجد القارئ نموذجًا منه. فالراوي يخاطبُ الشخص الذي يُفترض فيه أن يكون بطلا للقصة: « نومُكَ كان متقَطّعًا ليلة البارحة. « (ص26) وبهذه البداية يوحي المؤلفُ باختفاء الراوي الحقيقي خلف ستارة العُرْف الذهني المتّفق عليه بين الكاتب والقارئ، وهو وجود من يخاطبُ البطل مذكــّـرًا بالمجريات. وهذا السارد الخفيّ لا يفتأ يؤكد معرفته الدقيقة، والموثوقة، بعالم البطل. لذا نجده في المتواليات السردية يُذكــّره بالمجريات من مثل : « في بداية الأسبوع الفائت كنتَ قد وضعتَ قدمًا في مكتب المدير العام. العمّ أبو براك؟ المليونير؟ في الطابق الثلاثين؟ « (ص25)
ثم تمضي القصَّة في متوالياتٍ كهذه « مذْ عملتَ في الشركة وأنتَ تصادق أبا براك .. «(ص26) ويذكــّـره في موقع تالٍ بوفاة أبي براك، وما شَعَر به، وأحسَّ، عندما تلقى النبأ الفاجع. « اللقمة انحشرتْ في بلعومكَ حين جاءكَ الاتصال: أبو براك تُوفى « (ص 26) وحين يبلغ الأمر بالكاتب إلى الحوار، يتوقف الاتكاءُ على ضمير المخاطب. ونلاحظ هذا في الآتي:
ما الذي جاءَ به؟
سألتْ هدى
أحتاجُ مديرًا للمنجرة. انتظرُ اتصالكَ، ولكَ تحديدُ الراتب .. (ص28)
قال الزائر الهندي.
على أنّ البساطة غلبتْ على هذه القصة، وأضعفت الوهج الذي ُيتوقّع أنْ يحدثه فيها السارد، فجاء باهتًا شاحبًا كأيِّ سرد عادي، لا مزيّة فيه ،ولا طرافة. مع أن هذا النوع من الراوي – على الرغم من صعوبة اعتماده في السرد- من أفضل التقنيات السردية إذا صح أنْ يوصف بالتقنية السردية. فاللافت أن هذا الراوي يوحي للقارئ بدقة ما يرويه، وصحَّته، بما يؤكده من حوادث جزئية سبقت الحدث الرئيسي.
وقد تجنَّب المؤلف الرفاعي هذه البساطة في قصة أخرى لجأ فيها إلى هذا النوع من الراوي، وهي بعنوان « لوحة للهواء « فالساردُ الخفيُّ يخاطبُ من يُفترض أداؤه دورَ البطل، قائلا « قبل قليل دخلتَ صالةَ العرض « ثم يروي ما كان من شأن هذا الرجل المولع باقتناء اللوحات الفنية، وشرائها من المعارض. « مساءَ أمس حين جئتَ إلى المعرض أبصرْتَهُ بقامتهِ الطويلة .. « مشيرًا بذلك لعلاقة هذا الرجل بالفنان، ثم بإشارة سريعة يفتح قوسين لحوار سيجري بين الاثنين:
مساء الخير
بادَرَكَ بإشارةٍ من يده
اللوحة تنْتظرُك. (ص27)
ولا يفتأ الكاتبُ يستخدم هذه الطريقة التي يهيمن فيها ضمير المخاطب على الخطاب، حتى في أثناء لقائه بسيدة توقفت، وفي نظراتها يتّضح الإعجابُ باللوحة التي اختارها لنفسه، مما يدفع به لمبادأتها بالحديث
جميلة، اللوحة!
بادرْتَها بعبارتكَ، ظلَّتْ واقفةً لثوانٍ قبل أنْ تردَّ عليك
أحبُّ اللونَ الرماديّ.
ومع أنّ القصّة تعالج موضوع عمى الألوان، والاختلاف بين الأزرق والرمادي، وموقف الفنان نفسه من هذا، إلا أنَّ الموضوع لا تأثير له في أنَّ الكاتب نجحَ في تطبيق الفكرة السائدة عن السارد المشارك الذي لا يتحدَّث عن نفسه، بل يتحدث مع آخر عن هذا الآخر، الذي هو موضوع القصة. وهذا الضربُ من السرد يبدو للقارئ أكثر صدقًا حتى من السرد المتكئ على الراوي العليم، والراوي المُمَسرح، لأنه بما يصدر عنه من أقوال، يوثِّق ما يرويه، فإذا كنتَ - عزيزي القارئ - لا تثقُ في ما يرويه المؤلفُ عن الشخوص، فإنَّ هذا السارد بلهجته القائمة على تذكير المخاطَب بما حدث له، أو معه، يُضفي على مروياته مصداقيّة أكبر. إذ هو يخاطبُ البطلَ، الذي هو الفاعل، مُذكـرًا بالفعل الذي قام به. وقد لا يكتفي بهذا، بل يفسره تفسيرا قائما على ما يوهمنا بمعرفته الدقيقة بخفايا هذا المخاطَب، وأسْراره.
والسارد الذي من هذا النمط يُذكــّـرنا بالقَصَص التراسُلي، أيْ بذلك القَصَص الذي يُكتب على هيئة رسائل متبادلة بين الشخوص. لأنّ الرسالة التي يبعث بها أحد الشخوص للآخر تتضمّن تذكيره بالحوادث، وبالمجريات، استعادةً، أو تركيزًا. ومن الممْكن أنْ نمثل - ها هنا - برواية « ذاكرة الجسد « لأحلام مستغاني، ورواية « الحديقة السرّية « لمحمد القيسي، ورواية الفرنسي بيير دي لاكلو Laclos» علاقات خطرة « 1782. أما اللافت في هذه المجموعة « رمادي داكن « فهو خلوّها من أيّ قصة تعتمد السارد العليم، والقصص الست والعشرون يراوح فيها الكاتب بين سارد ممسرح، أو مشارك، وسارد مشارك عن طريق التحاور مع الشخصية الرئيسة في النصّ.