18-05-2022 10:32 AM
بقلم : د. حفظي اشتية
واضح أنّ العنوان نفسه صادم، يشعل الشجن، ويفجر الألم، وينزع الأمان، ويطلق للقلق كلّ عنان؛ فالفساد أيّاً كان نوعه محبط لكلّ عزيمة، مثبط لكلّ همّة، لكنه في الوسط الأكاديمي أكثر خطراً وأعظم أثراً وأصعب نتيجة وأجلّ مصيبة، فالمفروض أنّ البيئة الأكاديمية تشكّل واحة للموضوعية والنزاهة والحكمة والمعالجة العلمية، لكنْ يبدو أنّ فجوة قد نشأت في غفلة، فاتسعت الشُقّة بين الآمال والواقع، وطفا زبدٌ جزل غطى أو كاد صفحة الماء العذب الزلال.
وقد كتبنا، وكتب كثيرون غيرنا بهذا الشأن، ونبهنا، وحذّرنا، ودلّلنا، وفصّلنا، وصحنا بعالي الصوت أنْ أدركوا وميض النار خلل الرماد، قبل أنْ يستفحل الداء ويستعصي الدواء، فالأمر جلل، وهو جِدٌ لا مجال فيه لأيّ هزل، لأنه يتعلّق بالجامعات معقل الجيل الصاعد، ومعقد الأمل الواعد، ولطالما خرجتْ أمم مهزومة مسحوقة، لكنها بالعلم فقط، وبالبيئة الأكاديمية السوية، سرعان ما نهضت من كبوتها، واستيقظت من غفوتها، فاعتدلت واستوت واستقامت، ومضت قُدماً صُعداً نحو الصدارة بكل جدارة.
وعرضنا نموذجاً للخلل الإداري والفساد الأكاديمي يتمثّل في الترقيات التي تحولت بأيدي بعض رؤساء الجامعات ونوابهم وعمدائهم إلى هبات غير مستحقة لفئة انتهازية فهلوية، أتقنت فن التملّق والنفاق، واصطناع العلاقات والمصالح، بينما حُرمت فئة أخرى من ترقيات مستحقة حجبتها عنها عزّة نفسها، وترفّعها عن التودد المتكلَّف الزائف، والتقرّب المذلّ المبتذل، فانقلب ميزان العدالة، فتمت أحياناً ترقية الضعيف المَهين، وحُجبت الترقية عن القوي الأمين، وغلب الاضطراب بذلك على البيئة الأكاديمية، وطغت المزاجية والإرب الشخصية، فبدا الأمر كأننا في حضرة النعمان لا يعلم أحدنا حظّه: أيلقاه في يوم نعيمه أم في يوم بؤسه؟! وغدا الواقع مرهوناً بكلمة يصدع بها الرئيس الفذّ يتراقص فيها اليأس والرجاء بين: ياغلام أعطه ألف دينار، أو أحضروا السيف والنطع!!!!
كلّ ذلك وقع وسيقع لا محالة بسبب غياب تعليمات موحدة واضحة حازمة، تسري على الجميع بعدالة نافذة، لا مجال فيها لتحايل أو تحامل أو تصيّد أو مجاملة، فيتلقف كلّ امرئ ما جنته يداه، ويخيّم على جوّ البحث والعمل الرضا والسكينة والروح الإيجابية المطمئنة.
وقد كنا ضربنا الأمثال بأن تعليمات التنرقية تتفاوت بين جامعة وأخرى، وبين عهد وآخر في الجامعة نفسها، وبين طلب ترقية وطلب آخر في العهد نفسه....... إلخ.
من ذلك، أنّ هذه المجلة معترف بها في هذه الجامعة، وغير معترف بها في تلك، هذه المجلة كان معترفا بها في هذه الجامعة ولم يعد معترفاً بها الآن، هذا البحث اعتُمد لأحد الباحثين في هذه المجلة، بينما لم يُعتمد البحث نفسه في العهد نفسه وفي المجلة نفسها لشريك الباحث الأول في البحث نفسه!!!!!
ويتم ذلك – غالباً- بنظرات مزاجية أو كيدية أو مصلحية، وعلى أفضل أحوال حسن الظن بنظرة متعجلة جاهلة قاصرة غير موضوعية: فقد تجد – مثلاً- مَن يرفض اعتماد أحد الأبحاث في تخصص اللغة العربية لأنّ المجلة في الآداب، مفترضاً أنْ يكون مسمى المجلة تحديداً في اللغة العربية!!!!!!
وعبثاً تحاول إقناعه أنّ اللغة العربية جزء من الآداب، وأنّ المسمى هو اللغة العربية وآدابها، وأنّ المجلة عريقة صدرت قبل تأسيس جامعتك بعقود أيها المسؤول العتيد العنيد!!!! وأنّ كلّ عدد منها فيه جزء مخصص للغة العربية، وأنّ معظم مجلات الدنيا المشهورة كذلك، فلا يعقل أنْ تُخصَّص مجلة لكلّ فرع من الآداب، وأنّ أهم المجلات في هذا الوطن مثل دراسات الجامعة الأردنية التي ترقّى على الأبحاث المنشورة فيها أساطين العلماء منذ عشرات السنين هي كذلك، وأنّ تخصصك في الزراعة أو في الذرّة أو في الذكاء الصناعي الياباني قد لا يسعفك في فهم سوية المجلات الأدبية وتخصصها، وأنّ البحث الذي ترفض اعتماده الآن سبق انْ اعتمدته الجامعة نفسها للباحث نفسه قبل ذلك، وأنّ ..... وأنّ...... لكنه العناد والمكابرة والخواء والكيد والجهل التي تفسد كلّ شيء.
أثمرت الكتابات الكثيرة والمراجعات الدؤوبة لذوي الشأن الشرفاء عن تغيير قيادات بعض الجامعات، ثمّ انكشف المخبوء بعد التغيير، فتناثرت أعشاش الفساد والانتهازية والشللية والسطو الحرام على المال العام المجموع برموش العيون من أهالي الطلاب المدينين المغلوبين لدفع الأقساط الجامعية. ثمّ تجرّأ كثير من المظلومين المقموعين فتقدموا بالشكاوى إلى الإدارة الجديدة، لكنّ المتضررين من التغيير يحاولون بكلّ وسيلة التأثير على صاحب القرار، وتأخير كلّ ما يحقّق العدالة لإثبات أنهم – بظلمهم- كانوا على حقّ، وانّ العنزة ما زالت تحلّق وتطير !!!!!!!!!!!!!!
والخلاصة،
إننا ما زلنا في أمس الحاجة إلى إنضاج الإصلاح، وقطف ثمرة القرار الجريء بالتغيير؛ فاللجان التي شُكلت للنظر في المظلمات تُشنّ عليها حرب ظالمة شعواء لتقيّد عملها، وتئد قراراتها، وتحرف مسارها، وهذا أمر جسيم الخطر لأنّ الناس تنسّمت الأمل بعد طول يأس، وإعادتها غصباً إلى عهد الظلم والظلام قد يؤدي إلى إحباط مقيت مميت، ورَدات فعل يائسة عارمة عاصفة.
فإلى كلّ مسؤول شريف يهمّه أمر مؤسساتنا التعليمية نقول:
أطلقوا يد كلّ جادّ في التصويب، ساعٍ إلى الإصلاح، ووسِّعوا صلاحياته لينهض بمهماته، وعجّلوا بمحاسبة ومعاقبة كلّ من تثبت إدانته، ليعمّ الشعور بالأمن الوظيفي والمجتمعي، فقد دفع بعض المظلومين أثماناً باهظة: خسروا وظائفهم، ومُنعت ترقياتهم، وحُسمت مكافآتهم واستنزفت أوقاتهم وصحتهم وأعصابهم وأموالهم في المحاكم، واختلّت ثقتهم بالعدالة الوظيفية، وتضاءل انتماؤهم لمؤسستهم، وقلّ عطاؤهم، وفقدوا الرغبة والدافعية في الاستمرار بعملهم.
أعيدوا لهم الامل بأنّ محاربة الفساد تتعدّى القول وتتجلّى في العمل؛ لتعود مؤسساتنا كما كان عهدها مشاعل هداية وعلم وريادة وعدل.