21-05-2022 08:58 AM
سرايا - امتاز القاص محمد عبد الكريم الزيود بالكتابة العاطفية والإنسانية، التي تلامس القلب، فهو يكتب القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا، التي اتسمت بالجمل المكثفة القصيرة، واللغة الرومانسية والصور المبتكرة، كما أنها تعاين مشاهد إنسانية قد نقابلها في حياتنا اليومية.
من خلال قراءتي لمجموعته الثانية (وحيدًا كوتر ربابة) الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية، عام 2019، وتقع المجموعة في سبعين صفحة، وتتكون من سبعة وعشرين نصًا قصصيًا، تراوحت بين فن القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا، لفت انتباهي النهايات غير المتوقعة، وصورة الرجل والمرأة التي جاءت مختلفة، ومفارقة للصور المتعارف عليها.
فالمفارقة ضرورة لا بد منها في الفن عمومًا، والأدب على وجه الخصوص، وهذا الوجود يتحدد بمقدار الفائدة والجمالية التي تضيفها المفارقة على النص، إذن تعد المفارقة ذات أهمية بالغة لما لها من قدرة على التأثير في المتلقي وصياغة جماليات النص، والقصة القصيرة مبنية على المفارقة، التي تفاجئ القارئ.
إن لغة الأدب أكثر قدرة على التعامل مع ما يقول الناس أو يفكرون، أو يعتقدون، وعلى تناول الفرق بين ما يقول الناس وما يفكرون، وبين ما يعتقد وما هو واقع الحال، وهذا هو المجال الذي تنشط فيه المفارقة.
جاءت المفارقة من خلال النهايات غير المتوقعة، ومن خلال حضور المرأة والرجل، الذي بدا مختلفًا ومفارقًا إلى حد ما، فقد كانت المرأة بصورة القوية القادرة على اتخاذ قراراتها بحرية مطلقة، وظهرت صورة الرجل مخذولًا ومظلومًا ومهملًا على غير العادة.
وقد ظهرت صورة المرأة مفارقة ومخالفة لما هو متعارف عليه في مجتمعنا، فهي دائمًا مظلومة، وفي خانة الإهمال، وضحية الرجل المتعالي والمتسلًط، وفي بعض قصص المجموعة ظهرت بقوتها وعنفوانها وبصورتها الذاتية وحبها لذاتها، وبصورة اللؤم والخبث، وشخصيتها لم تكن واضحة لا هي أبيض ولا أسود، مثل النسكافيه، بانت المرأة بصورة المتعالية، غير مبالية برسالة الرجل النبيل الذي أظهر حبه وشوقه لها: «عزيزتي، مرّة أخرى أكتبُ إليكِ.. لم يأتِ ساعي البريد برسائل جديدة، وقد كنتُ أنتظره كل صباح لعلّه يحمل لي شيئا، ولكن كالعادة ألملمُ خيباتي وأعود إلى شرفتي وأشعل سيجارة. ... لا أعرف كلّما سقط المطر هنا.. أستحضر طيفك وتمرّ بي ذكريات ما زال عطركِ يشعلها، وقد تركتُ بعضه على مقعدك الفارغ..»(نسكافيه، ص: 35-36).
أثناء قراءتها للرسالة أصرت على الاهتمام بنفسها واختيار ما يناسبها للخروج، ربما مع رجل آخر: «نظرتْ إلى ساعتها، ربما لم يتبقَ الكثير من الوقت، لكنها عادتْ إلى خزانتها والتقطتْ فستانها الأحمر... وضعتْ الرسالة بجانب فنجان النسكافيه، الوقت يحاصرها، ثم ذهبتْ لتكمل ارتداء ملابسها على عجل، وصلتْ الباب ثم عادتْ لتتأكد من نفسها أمام المرآة، تبسمتْ بزهو وغرور، انتبهتْ للرسالة، شربتْ آخر رشفة من الفنجان، وطوتْ الرسالة ورمتْ بها في سلة المهملات عند الباب ثم خرجت مسرعة! (نسكافيه، ص37). في نهاية القصة ظهر لؤمها وأنانيتها بإلقاء الرسالة في سلة المهملات غير مهتمة لما كُتِب فيها.
وفي قصة المنتصف وأشياء أخرى نرى تلك المرأة بثوب المهملة والمقصِّرة، فقد أرسل لها منذ فترة ولم ترد عليه: «تفقد هاتفه، لم ترسل له منذ الصباح، توقع أن تودعه، ترد على آخر رسالة..» (المنتصف وأشياء أخرى، ص39)، ظهرت بصورة الصلبة المتحكمة بمشاعرها: «كتب لها آخر مرة رسالة على هاتفه (في منتصف العمر تأتي أشياء متأخرة ليست في أوانها، ومنها الحب يا عزيزتي) قرأت رسالته، انتظرها لترد، لاحظ جاري الكتابة ولكن لم ترسل شيئًا كعادتها...»(المنتصف وأشياء أخرى، ص40)، ربما في وقت جاري الكتابة كتبت له كل ما تحمله بقلبها من حب ومشاعر له ونسجتها بأحرف من ذهب، وفي لحظة تراجعت ربما الخوف من البوح، أو الخوف من الخذلان، فحذفت ما كتبت وأغلقت الهاتف. فالنساء اعتدن على الخذلان والإهمال من الطرف الآخر.
ولكن قبل إقلاع الطائرة أرسلت إليه رسالة بأنها ستنتظره في المطار في منتصف قاعة القادمين، عادت له ابتسامته وغير اتجاهه فلم يعد يحب المنتصف يريد أن يكون دائما في المقدمة: «ثم نادى على المضيفة هل أستطيع تغيير مقعدي، لا أحب المنتصف، أحب المقاعد الأمامية» (المنتصف وأشياء أخرى، ص41). هكذا هي طبيعة الأنثى لا تستطيع التخلي عن مشاعرها وحنانها.
أما في فنجان قهوة فنرى صورة الرجل الذي ترجم حبه لزوجته؛ فقد بنى العش من الياسمين والنوافذ تطل على البحر، ولكن كل هذه الأمور لم تعجبها، وبقي يحلم بفنجان القهوة من يدها، ولكن بأسلوب الاحتجاج على الإهمال المتعمد مزق لوحته وصنع فنجان قهوة بنفسه: «مزق اللوحة وذهب إلى المطبخ ليعد فنجان القهوة وبقيت هي تقلب محطات التلفاز». (فنجان قهوة، ص53).
إن المفارقة أيضًا تنظم بناء الحدث بحيث يتطور في مسار يكون مخالفًا للنهاية المقصودة، وهذا ما تم ملاحظته في تلك القصص وربما في قصص المجموعة كلها، فقد لجأ القاص محمد عبد الكريم الزيود إلى نسج نهاياته بما يمكن تسميته بخيبة الانتظار أو كسر أفق التوقع؛ وهو الذي يكسر به توقع القارئ الذي كان ينتظر أن يجد ما يتوقعه من الكلام بناء على المقدمات السياقية ولكنه يتفاجأ بنتيجة أخرى تناقض توقعاته، فيزيد من تفاعله ومن كثافة المغزى، فمثلًا في قصة نسكافيه نجد النهاية أن الفتاة رمت بتلك الرسالة في سلة المهملات وارتدت ملابسها وخرجت، وأنت تقرأ بداية القصة تشعر أن الفتاة مندمجة بقراءة الرسالة، وأنها ستحتفظ بها لما تحمله من مشاعر جياشة، مشاعر الشوق والوفاء، لتصل إلى النهاية فتتفاجأ بإلقائها لها في سلة المهملات.
أما نهاية قصة المنتصف وأشياء أخرى أيضًا فقد خالفت تطلع القارئ وكسرت أفق توقعاته كلها، لم يخطر بذهن القارئ أن الفتاة سترسل رسالة وتقول له أنها بانتظاره في قاعة القادمين، فهي خلال القصة لم ترد عليه ولو بكلمة واحدة.
وأخيرًا في فنجان قهوة، نرى أن النهاية كمثيلاتها لجأ فيها إلى كسر أفق التوقع، وذهب الزوج لإعداد فنجان القهوة، الذي طالما حلم أن يكون من إعداد زوجته التي فعل الكثير لها.
إن القاص محمد الزيود يكتب بحرفية ومهارة، ويضع بصمته المميزة، وتتناول قصصه الهم الإنساني والقضايا اليومية والوطنية، ويرسم العالم على واقع مشحون ومملوء بصراعات الإنسان لتحقيق أحلامه.