31-05-2022 09:19 AM
سرايا - يضمُّ ديوان «كتاب الغبطة المتَّصلة» للشاعر الجزائري الهواري غزالي، ثلاث مقدِّمات، و39 قصيدة، وترجمتين؛ الأولى للشَّاعر كمال بياتلي متغزِّلا بغرناطة، والثَّانية للوركا بعنوان «حكاية القمر يا قمر»، وملحقاً في الأخير.
وتتسم القصائد التي تتوزع على 175 صفحة، بتنوعها بين الشِّعر العمودي وشعر التَّفعيلة وقصيدة النَّثر، وكما يشير الشاعر، فقد كُتبت في معظمها سنة 2020، وهي مهداة لـ «لَيْلَى أنْطُونْيَا مَارِيَّا مِينُوزْ الغَرْنَاطيَّة» التي يعود إليها الشَّاعر في إحدى قصائده بالدِّيوان.
ويتناول الدِّيوان الذي صدر عن «الآن ناشرون وموزعون» مؤخراً، موضوع الأندلس عموماً وغرناطة خصوصاً، إذ تتوزَّع القصائد بين مديحٍ للمدينة على شكلِ تغزُّلٍ بامرأة، واحتواءٍ تاريخيٍّ متوسِّطيٍّ للمكان، وسفرٍ متعدِّدٍ وتقصٍّ للجذور، ومقارنةٍ معقودةٍ مع قريناتها من المدن العربية التي أتى الدَّمار عليها كما هي الحال في قصيدة «لا غالب إلا الله» التي يجري فيها الشَّاعر حوارا على لسان قصر الحمراء وقلعة حلب.
ويقدِّم الهواري غزالي الذي يقيم في فرنسا، من خلال المقدِّمات الثلاث، حيثيَّات سفره إلى غرناطة، ودقائق تصوُّره للأندلس، لا سيما من خلال ما كتبه محمود درويش خاصَّةً، أين يعود إلى العنصر الزَّمني الذي يوجب بالدَّعوة إلى الأندلس بعد حصار حلب، كما يقدِّم تفسيراتٍ لغويَّةً شتَّى لمفردة «الغبطة المتَّصلة» استقاها من السياق الشِّعري الأندلسي تحديداً، فهو في رأيه الأقرب إلى هذا الاستخدام دلالةً ومعنًى من أيِّ عصر وإقليم في العالم العربي والإسلامي.
هناك جوانب أو مستويات عدَّة في هذا الديوان، هي: المستوى التَّاريخي، والحضاري، والإخواني، والجمالي واللغوي. ويمكن التوقف هنا عند الجانب الحضاري لفكرة الدِّيوان، وهو ما يتجلَّى في المقدِّمات الثَّلاث في صورة توضيحيَّة للنُّصوص، كما يتوزَّع بشكل مبطَّنٍ في النُّصوص. وربما أن هذا يستدعي السُّؤال الآتي: ما الذي تعنيه الأندلس للشُّعراء، وللهواري غزالي على وجه الخصوص؟
يقول الشاعر في الصَّفحة الأولى: «ليس للشِّعر طَريقٌ سوى ذلك الذي بين غرناطة والقيروان». فماذا تفعل القيروان في غرناطة، وما العلاقة بينهما؟ يرسم الشَّاعر في الواقع، بين غرناطة والقيروان طريقاً، وهو يقول إنَّه طريق الشُّعراء، وإذا تصفَّحنا كتاباته عن القيروان المنشورة بمجلَّة «رمَّان» على سبيل المثال، سنجده يوضِّح رؤيته بشكل واضح. إنَّ الأندلس لديه متعدِّدة، وليست واحدة، وإنَّ المدن المغاربيَّة جديرة بأن تكون هي أيضاً أندلس أخرى، أندلس إفريقيَّة، والقيروان لدى الشاعر جوهرُ الأندلس الفرد، فها هو يقول عنهما: «القيروان أمّ المدن، وهندساتها صلب العمران، وما تجاوزت مدينة في الأندلس أو في المغرب مَعْمَرَةً إلا وفيها من القيروان ما تدين به لها».
ويمكن للقارئ في الواقع أن يضع نفسه أمام مشهد فكري جديد، فالأندلس لدى الهواري غزالي، ليست تاريخاً فحسب، أو مقاطعة إسبانية، وإنَّما هي أيضاً إحساس، وإنسانيَّة، وتعدُّديَّة وديمقراطيَّة، وهي نظام أحرى بدول شمال إفريقيا أن تتبنَّاه. يقول الشَّاعر في مقدِّمته:
«إنَّ (كتاب الغبطة المتصلة) دعوة إلى تأسيس مدنية من شأنها تقوية المجتمع وإلى ديمقراطية من أهدافها تحصين السياسة وإلى الحزم في البناء والسلاسة في النقاش والنُّعومة في التَّعايش وإلى الحريَّة الفردية التي يستلزمها الإبداع والابتكار وإلى الحريَّة الجماعية في التَّحديد والاختيار. إنَّ الأندلس فضلا عن هذا كلِّه، تعدُّ إيمانا بالممكن، وكفرا بالمستحيل، حيث يكون الممكن هو القدرة على صناعة الإنسان من جديد أوَّلاً».
تأتي غرناطة كأنَّها نموذج عمرانيٌّ اجتماعيٌّ استطاع الإسبان أن يحافظوا عليه منذ القديم في مقابل ما تدمَّر عند المسلمين من آثار بسبب الحروب والإهمال. في قصيدة «لا غالب إلا الله»، وبينما يزهو قصر الحمراء بما له من حضوة الاستمرار بفضل الإسبان، سنرى قلعة حلب ترثي نفسها رثاءً مرّاً، يقول الشَّاعر:
«قالتْ ثمَّ قالَتْ، والصَّمْـــتُ في حلبٍ أوَّاهُ: قدْ دَمَّرَنِي بَطْشٌ يُحْــمَى في بَلَدِي أقواهُ/ من سادَ بحكْمٍ، همَّت بالنَّاس لَهُ دَعْوَاهُ/ أوْ ماتَ لدينا قَامَتْ من نِقْمَتِهِ بلْواهُ/ من كانَ عَلى صوتٍ أضحَى صَوتُه مثْوَاهُ/ الحَرْبُ مَتى هاجتْ، لا يبقَى نَسَبٌ أوْ جاهُ/ ثمَّ انْكَفَأتْ تذْوِي كالوردِ انْطَوى أبْهَاهُ/ والهمُّ ظِلالٌ طَافتْ في أسْوَدِهَا شكْوَاهُ/ قدْ ضَلَّ بِهِمْ ظَنِّي إنْ أذْكُرُهُ أنْسَاهُ/ واللَّيْلُ ثوَى عُمرِي والدَّمع سَقَى مَجْرَاهُ/ أُفنِيْتُ، فما أشْجَى مَوْتي لهواً وَمَا أقسَاهُ/ قالت، وانْقَضَى ذِكْرٌ في مُحْتَضَرٍ مَحْيَاهُ/ ذِكْرَى كَبِدٍ حرَّى لا غَالِبَ إلا اللَّهُ».
كما لا يعدم القارئ في الدِّيوان تصوير غرناطة كما لو أنَّها الأنثى الوحيدة التي تؤدِّي دور راقصة الفلامنكو من بين جميع المدن، وهو ما يجعل الشاعر يربط غرناطة بعصرها الإسباني الحديث من دون أن تكون فقط مدينة إسلامية أثرية قديمة:
«سَأَحْمِلُ إلى عَيْنَيْكِ اللّوْزِيَّتَيْنِ نَثِيرَ مَا تَـهَاطَلَ مِنْ أمْطَارِ إشْبِيلْية
وَأَصْبغُ شَفَتَيْكِ بِرَيْحَانِ قَصْرِ العَبَّاد
وَأتْرُكُ رَاقِصَةَ الفْلامِنْكُو
تُنْشِدُ لَكِ حَنِينَها المَوجُوع
أمَامَ قَدَمَيْك».