18-06-2022 09:38 AM
سرايا - بمتعة متصاعدة انتقلت من قصة إلى ما بعدها من قصص المجموعة القصصية (شارب الجنرال) للقاص سمير البرقاوي لافتا انتباهي رشاقة العبارات وميلها إلى الإيجاز مع احتفاظها بكامل طاقتها التعبيرية في جلسة واحدة امتدت من منتصف الليل إلى مطلع الفجر، لأنتهي من قراءتها ومقاربتها هذه.
ببساطة ووضوح دون إغراق في التفاصيل المملة، دون تعقيد لفظي ومعنوي لا طائل منه، يقدم سمير البرقاوي نصوصه القصصية عبر سرد ممتع مدهش بسيط عميق الدلالة بالغ التأثير.
(إذعان)
ومن قصته الأولى (إذعان) يأخذنا بذات البساطة والعمق نحو واقع شمولي غارق في الجمود والانغلاق وتقديس القيد، وإخفات أي صوت وميل ضئيل للحرية.
وقد عبر العنوان (إذعان) أيما تعبير عن الفكرة الأساس للقصة، والمحزن في الأمر أن تكون معلمة الأجيال من تتبنى سياسة الإذعان وإطفاء أي توق لأدنى درجة من حرية، وكيف أنها وصلت حتى ضرب احد أطفال الفصل لمنعه من الاستمتاع ببعض حريته عبر الذهب إلى الحمام أو اللعب على الأرجوحة.
والطفل بطبيعته كما العصفور يعشق الحرية ويبشر بها، ويرفض القيد، والمدرسة تعشق القيد والإذلال وتمعن في قهر الأحلام الطفولة، فمن لضرب إلى كتابة تقرير بحقه إلى الجهات الرسمية، وصولا إلى إخفائه وراء الشمس شهورا طويلة، ليكون عبره لغيره من الشغوفين بالحرية.
ومع ما في الموقف من قسوة وظلام، غير أن القاص وبلفتة سريعة لماحة، يؤكد أن الفجر قادم. وان القيد سينكسر, وان الشوق إلى الحرية لا ينتهي إلا بنيلها، نلمس هذا حين ضبطت المدرسة الطفل الذي عاد منهكا بعد شهرين من الغياب، ما زال ينظر من النافذة إلى العصفور والنور وبشغف نحو الحرية.
(المرآة)
ويأخذنا القاص سمير البرقاوي عبر قصته (المرآة) إلى حالة من حالات الشيزوفرينيا التي تتجسد في سلوك وشخصية ذلك الشخص الذي كان يحس بضآلة وتفاهة ذاته في حال فقره، واستمر هذا الإحساس حتى بعد أن فعل المستحيل للوصول إلى حالة من الغنى، عبر كل وسائل الخسة والابتزاز والانحطاط، عله يجد له مكانا بين علية القوم، وهو يعلم تماما أن ما وصل إليه لم يجلب له إحساسا بقيمة أو مكانة، حتى لو تظاهر بغير ذلك أمام الناس، عبر استعلائه وإساءته لموظفي شركاته. انه ما أن يقف ناظرا لنفسه في المرآة، حتى يكتشف كم هو خسيس درجه أن يبصق على صورته.
وفي سرد مدهش يضاعف سمير البرقاوي من مدى ضآلة تلك الشخصية عبر عن أنسنة المرآة، لتقوم ولشدة احتقارها لتلك الشخصية بالبصق عليها، إشارة لعدم رضاها عنها، في حالة اندغام سلبي بين الصورة واصلها.
(الذميم)
وقفت أمام القصة القصيرة (الذميم)، قلت في نفسي:
هذه القصة مثال للبناء القصصي المقصود، وهل يوجد بناء قصص لا تقف وراءه أراده وقصدية كاتبه؟
والإجابة نعم، لا سرد إلا وخلفه قصدية كاتبه، غير أن بعض النصوص تشعرك بطلاقه التعبير وخفوت قصدية كاتبها بما يقارب فكرة موت المؤلف.
في هذه القصة (الذميم) المح قصدية القاص في توجيه إيقاع السرد غير أن ما يميز تقنية سمير البرقاوي في قصته هذه، إخفاءه وتأكيده على كل ما يمكن أن يترك من اثر في نفس القارئ أو المتلقي، وقد بلغ من ذلك ما أراد وأكثر.
(النور والعتمة)
وقصته (النور والعتمة) وفي بناء درامي متصاعد، يكشف القاص سمير البرقاوي عن مدى تحكم طموح وأطماع الإنسان الفقير البسيط لبلوغ الغنى والثراء، حد إسكات النفس اللوامة وإقناعها أن الغاية أهم من الوسيلة، وهكذا يقودنا السرد إلى اللحظة التي تهمس بإذني سعيد ومرسي، كأنها تقول: (ليس كل ما يلمع ذهبا) أو (الطمع جسر يفضي في الغالب إلى الخطر).
ما شدني في هذه القصة تلك الأنساق ذات الدلالة والإيقاع الشعريين،بما فيهما من صور مؤثرة مرهفة مثال ذلك، بداية من العنوان:
ثنائية الضوء والعتمة
حزمة الضوء
السواد السميك
عمود من الرخام الناصع
عربدة النور
الصمت الثقيل
عمود النور الشاحب
(المسيرة)
إن قصة (المسيرة) تعبر عن توق الإنسان للحظة انعتاق وحرية، وان الاستسلام لحاله انجراف القطيع لرغبة القائد الفرد الملهم، والتساوق مع المقولة الشعبية (حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس) سيولد من يرفضها ونهر القطيع الجارف، لن يحول دون انطلاق جداول وان كانت ضئيلة، تسير عكس التيار، وما هي إلا بداية بسيطة تنطلق من قلة، لتشتعل عدواها مع الأيام، وان في تنسم الحرية حياة، وان أفضت إلى الموت.
(النصر)
وتعبر قصة (النصر) عن تنشق الإنسان العربي بشكل خاص لأدنى درجة من انتصار، حتى لو كان انتصارا كرويا، وكيف أوصلتنا سلسلة الهزائم الوجودية، إلى أن نفرح بزيف انتصارات الكرة التي كثيرا ما تتحول إلى فتنة تزيد من انكسارنا وفراغنا نفسيا وقيميا، وكيف أننا في حمئة الانتصار المزيف، ننسى حيواتنا الحقيقية، واهم وواجباتنا الإنسانية.
كل هذا وأكثر جسده لنا القاص سمير البرقاوي عبر هذه القصة بإيقاع سينمائي تعيشه لحظة بلحظة، وكأنه واقع معاد.
(امرأة من زمن آخر)
أما قصة (امرأة من زمن آخر) فهي فيض مرهف من المشاعر, تعبير راق عن حقيقة أمهاتنا، حارسات النار, وهن يطيرن رسائل الصبر والمجد والفخار, يشيعن أكرمنا وأجملنا بالزغاريد، أحسست وأنا اقرأ هذه القصة، وكان كاتبها، يردد ما كتبته ذات يوم، من قصيدة
(مخيم) حين قلت:
وحارسة النار على قوسها
تهز نخيل الحياة
وتبدع طقس الجسارة
تغني لأطفالها العاكفين على موتهم
و ترفعهم كوكبا كوكبا
يغنون مجد المخيم
يضيئون عتمته بالبشارة
وكأن قصته بعض قول على قول، أو بعض وقع الحافر على الحافر مجازا.
(شارب الجنرال)
وتأخذنا قصة (شارب الجنرال) إلى واقع سوريالي مفجع، تعيشه بعض الشعوب العربية حيث نظام القائد الأوحد، الزعيم الملهم، وأمثالها من عبارات، يؤخذ الناس بشبة ودون شبهة، وقد أجاد سمير البرقاوي أيما أجادة، في تصوير الواقع المأساوي الذي تعيشه بعض الشعوب، حيث لا حرية ولا كرامة، حيث يختزل الوطن في شارب الجنرال المقدس، ذلك الجنرال الذي لم يعرف من الحروب إلا بطشه بشعبه وبني جلدته، ولعل قصته هذه تمثل ذروة سنام مجموعته القصصية، وأحسن إذ جعلها عنوانا لها.
أخيرا أقول:
إن القاص سمير البرقاوي قدم نفسه من خلال هذه المجموعة قاصا متمكنا، متميزا، يثير الدهشة والمتعة معا، في إطار من السرد الذكي السهل العميق، يقدم نصفه عبر تقنية الراوي بشكل رئيس، وعبر ما يستدعيه الموقف القصصي من تقنيات القص،(منولوج، دايالوج، تداعي واستحضار، وحركة عبر الزمكان الخ الخ) وفق تداعي الأحداث وتصاعد الدراما القصصية.
وهو يقدم سرده في أكثر الأحيان عبر سياقات تصويرية سينمائية، تجعل القارئ جزءا مما يعتري القصة من تفاعل.
و لان القصة القصيرة، لا تحتمل شخوصا كثيرة، فقد اكتفى سمير البرقاوي، بترك المساحة لبطل أو اثنين يتحركان عبر أديم قصصه،وجعل لها أسماء لا ترتبط بشخوص بعينها، بخلاف بطل قصة شارب الجنرال حيث الحق به اسم عشيرة معروفة، وأظن انه جانبه الصواب بذلك، ذلك مخافة أن ينصرف ظن القارئ إلى دولة بعينها، وفي ذلك ما فيه.