05-07-2022 11:16 AM
بقلم : عائده محمود الأدهش المعايطة
تلقينا دعوة من السفارة الجزائرية بمناسبة يوم استقلال الجزائر في الخامس من تموز والتي كانت قد استقلت عام 1962، ذلك البلد البعيد الذي ارتبطنا به عاطفيا منذ صغرنا عندما كنا ننشد في الطابور الصباحي ونحن في الصفوف الثلاث الأولى: "قسما بالنازلات الماحقات والدماء الزاكيات الطاهرات والبنود اللامعات الخافقات في الجبال الشامخات الشاهقات نحن ثرنا فحياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر فاشهدوا فاشهدوا فاشهدوا"، لم نكن نعلم حينها أننا نغنّي وننشد لبلد المليون شهيد، حفظنا النشيد وكنا نردده ونحن سعداء بترديده.
كنا ما بين السنة السادسة والثامنة من العمر، ولم نكن نعلم أن هناك بلدٍ عربيٌ عانى من الاحتلال الفرنسي ما عانى، ننشد وننشد على مر السنين حتى نفهم، وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر، فأشهدوا، يا للذكريات الجميلة كيف تهل علينا، وذكرتني بموقف أعتز به كثيراً ولطالما تفاخرت به.
كنت في بريطانيا عام 1995، وكنّا أنا وزوجي مدعوّان إلى عشاء شبه رسمي في أحد الفنادق البريطانية، وصلنا تماماً في الموعد إلى صالة صغيرة، حيث تناولنا القهوة وتبادلنا الحديث وقوفاً لحين حضور الجميع، انتقلنا بعد ذلك لقاعة متوسطة الحجم تحتوي عدة طاولات متصلة بعضها ببعض، ومرتبة بشكل أنيق ومميز على الطريقة الانجليزية الصارمة، فالورود بيضاء والصُّحُون المذهبة الأطراف كذلك، جلسنا طبقاً للبرتوكول الإنجليزي رجلٌ، ثم سيدةٌ، فرجلٌ، ثم سيدةٌ، وهكذا، جلسنا كل في مقعده المحجوز باسمه المثبت بوردة على ظهر الكرسي من الخلف، علماَ بأنه قد تم إرسال مخطط سابق لنا يبين مكان الجلوس ورقم المقعد، وكان من حسن حظي أن مقعدي كان مواجهاً تماماً لمدخل المطعم الكبير.
جلست في مقعدي وتبادلت الأحاديث مع من بجانبي، وكلمة من هنا وكلمة من هناك فجميعنا أصدقاء عمل أصلاً، ومن ثم بدأ تقديم الطعام لنا والذي كان يتكون عادة من ثلاثة أطباق رئيسية، وأولها عادة طبق الشوربة اللذيذ، ارتشفت أول رشفة عندما لفت نظري ذلك الرجل المهيب الواقف على المدخل ومعه سيدة رقيقة، ووصل الرجل المهيب لدائرة الضوء تحت الثريّا الكبيرة، نظرت له مجدداً، صعقت، يا إلهي!! إنه الرئيس أحمد بن بلة بلحمه ودمه هو وزوجته، فنهضت فجأة من مقعدي، قفزت قفزاً وبدون استئذان، ركضت نحوه وقلبي يقفز فرحاً، ألقيت السلام عليه وعلى السيدة التي ترافقه، أخبرته راساً باسمي وأخبرته أيضاً بأنني أردنية الجنسية وأن زوجي يعمل ملحقاً عسكرياً في بريطانيا، ضحك ورحب بي وعرفني على السيدة الرقيقة وأخبرني بأنها زوجته السيدة زُهرة، تبادلنا أطراف الحديث وقلبي يخفق، أخبرته وأنا فخورة، بأن النشيد الجزائري: قسماً بالنازلات الماحقات كان يُرَدَّدُ في مدارسنا وأننا حفظناه على مدى الزمن، وأننا عرفنا الجزائر منذ نعومة أظفارنا، نعرفها، ولكن لا نعرف قصتها في ذلك الوقت، فرح جداً عندما أخبرته عن النشيد وبدأ بترديده بصوت خفيض، والسيدة زهرة تتلفت ضاحكة وسعيدة، عندما انتهينا، ودعته وأنا لا أريد تركه ولكن كان علي العودة لمقعدي، وكان هو عليه الجلوس نظراً لكبر سنة، وانتهت تلك المحادثة وأنا سعيدة جداً بمقابلة الرجل الذي يمثل تاريخاً مجيداً في حقبة تاريخية خطيرة ومثيرة للاهتمام.
عدت لمقعدي ضاحكة سعيدة، وأكاد لا أصدق نفسي بأنني قابلت أحمد بن بلة، سألني زوجي بلغتنا العربية وهو منزعج من كسري للبرتوكول الإنجليزي الصارم:
- ما بالك غادرتنا كمن أصابه مسٌّ من الجنون وذهبت للتحدث مع تلك الجماعة، أجبته بفخر واعتزاز:
- سأكسر البرتوكول مليون مرة لأحظى بالسلام على أحمد بن بلة، فقال لي مستنكراً:
- سلمت على من؟!!
أجبته ضاحكة:
- سلمت على أحمد بن بلة.
ابتسم ابتسامة كبيرة، قائلا لي:
- معك مليون حق لكسر البرتوكول، فهذه المصادفات تأتي مرة واحدة في العمر.
اعتذرت من الحضور، وكان أغلبهم متجهمين، وأخبرتهم أنني لم أقصد كسر البرتوكول، ولكن ذلك حدث بالرغم عني ولم أضف شيئا.
في الحقيقة، عندما شاهدته داخلاً وشامخاً تحركت عروبتي في داخلي، وتذكرت الجزائر بلد المليون شهيد، تذكرت نضالهم حتى التحرير والاستقلال، تذكرت معاناتهم، وكانت مقابلتي القصيرة للرئيس أحمد بن بلة ذكرى جميلة أرويها للجميع قائلة: "هل تصدقون، لقد قابلت الرئيس احمد بن بلة"!!
بقلم عائده محمود الأدهش المعايطة
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
05-07-2022 11:16 AM
سرايا |
2 - |
معك حق لكسرالبروتوكول، أنا شاهدته في الستينات وهو برفقة الزعيم الرئيس المرحوم جمال عبد الناصر.
|
05-07-2022 12:08 PM
Dr arabi التبليغ عن إساءة |