10-07-2022 11:18 AM
سرايا - وصل اللبنانيون إلى القعر الذي لا قعر تحته. في “بلاد الأرز” ما عادت الحياة كريمة والحقوق مُصانة والكرامة محفوظة بعدما باتت أدنى مقوّمات العيش مفقودة، والمؤسسات معطّلة، والخدمات معدومة، والإدارات مشلولة. باختصار، الدولة تتلاشى وإلى انحلال.
موظفو القطاع العام المسحوقة رواتبهم الذين باتوا يُصنّفون في عداد الطبقات الفقيرة، وجدوا أنفسهم أمام طريق مسدود، فكان لا مفرَّ أمامهم من الإضراب. بعض المرافق العامة، ولا سيما التابعة للأسلاك غير المدنية، تسير بالحد الأدنى من الموظفين، الذين قُلِّصت أيام حضورهم إلى مراكز عملهم بيومين في الأسبوع بسبب ارتفاع كلفة المواصلات التي تستنزف معاشاتهم جراء انهيار العملة الوطنية، لكن الدوائر الحكومية بكوادرها المدنية المعنية بشؤون المواطنين مُقفلة منذ أسابيع، ما يجعل اللبنانيين عالقين في دوامة لا تنتهي. وزاد مآسيهم ذلك الشعور بأنهم دخلوا السجن الكبير مع الإجراءات المفروضة على استحصال جواز السفر.
الأزمات تتفاقم. الانهيار الاقتصادي والمالي ترتّب عليه انهيار اجتماعي ولحقه اليوم انهيار إداري. كل مناحي الحياة في لبنان قد ضُربت. لم يعد الأمر محصوراً بأزمة معيشية، وغلاء، وتضخم، وودائع محتجزة في المصارف، بل بانهيار شبه شامل لكل القطاعات والخدمات وهو نتيجة طبيعية لـ”مأزومية” المالية العامة للدولة، الذي يُستخدم كتعبير مُلطَّف عن إفلاس الدولة.
اللبنانيون ينتقلون من صدمة إلى أخرى. يحاولون أن يتأقلموا مع التحوُّل التدريجي للخدمات إلى العملة الصعبة “الفريش دولار”. سلَّموا بالأمر الواقع بأن البنزين، والمازوت، وكهرباء المولدات، يتم احتسابها على “الدولار الفريش” وقد لحقتها الاتصالات الخلوية والإنترنت وكل أنواع التأمينات… والحبل على الجرار. يضيقون ذرعاً بجشع التجار، وغياب الرقابة، وفقدان الدواء، وتدني مستوى الخدمات الاستشفائية وندرة الكهرباء والمياه. تسرَّب اليأس إليهم من البقاء في وطنهم، فبات نظرهم إلى الخارج، إلى الهجرة، إلى فرصة عمل، إلى حيث يمكن أن يكون هناك أمل. بالأحرى يعيشون على أمل الفرار من “جهنم” حيث أظهرت دراسة حديثة أعدّتْها الدكتورة ليلى داغر، الأستاذة المساعدة في علم الاقتصاد في الجامعة الأمريكية في بيروت والباحثة والمُحاضِرة في أكثر من جامعة أمريكية، وارتكزت على مسح أُجري على 931 أسرة لبنانية، أن 73 في المئة من اللبنانيين يرغبون بالمغادرة إلى بلد آخر “من أجل عيش أفضل”.
حرية التنقل في خطر
والفرار من “جهنم” يحتاج إلى جواز سفر. لم يكن في حسبان اللبنانيين أنهم سيفيقون يوماً على خبر وقف تقديم طلبات استصدار أو تجديد جوازات سفر، بما يُقيِّد حرية تنقلهم. حرية التنقّل حق مكتسب ومُصان في الدستور اللبناني الذي يلتزم المواثيق والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فالمادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنصُّ على أنه “يحق لكل فرد أن يُغادر أية بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة إليها”، تماماً كما تنص المادة 12 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على أنه “يحق لأي فرد أن يُغادر أية دولة بحُـرّية بما في ذلك دولته”. هذه الأزمة المضافة على أزمات اللبنانيين لم تُفاقم فقط من شعورهم بالإذلال، بل فاقتها إلى الشعور وكأنهم قد أُخذوا رهائن من المنظومة الحاكمة. في الأساس، كثيرون يشعرون أن البلد برمته رهينة بيد “محور إيران” نتيجة هيمنة سلاح “حزب الله” على القرار فيه، ولكن هذا الشعور المستجد للمواطن اللبناني بأنه قيد الإقامة الجبرية، أو أنه سجين في بلده غير قادر على مغادرته ساعة يشاء، ليس حكراً على فريق سياسي أو بيئة اجتماعية مؤيدة أو معارضة لنفوذ تلك القوة الإقليمية أو تلك، بل هو يعمُّ كل أطياف الشعب بمعزل عن الانتماءات الطائفية أو السياسية.
بعد انتهاء الحرب الأهلية، وبدء انتظام العمل في المؤسسات العامة والدوائر الرسمية، في تسعينيات القرن الماضي، كانت الإجراءات لاستصدار أو تجديد جواز سفر على كثير من التنظيم واليسر والسرعة، بحيث بات الأمن العام “مضرب مثل” في زمن مديره العام اللواء جميل السيّد الآتي إلى هذا المنصب من مخابرات الجيش اللبناني، والمعروف بأنه من رموز الصف الأول في النظام الأمني اللبناني – السوري. منذ ذلك الحين، كان لا يحتاج استصدار جواز سفر إلى أكثر من أسبوع، ولا يحتاج إلى “وساطة” من هذا المسؤول أو ذاك، ولا إلى دفع رشوة لموظف أو مُعقِّب، بل هو خدمة متاحة للمواطنين تُضاهي الدول المتقدمة، وهناك آلية خاصة للطلبات المستعجلة هي كناية عن دفع رسم إضافي.
انقلاب المشهد
لكن المشهد انقلب رأساً على عقب قبل أشهر. كان طبيعياً خلال وباء كورونا ومرحلة الإغلاق ألا تظهر أي أزمة على مستوى الاستحصال على جوازات السفر رغم أن لبنان كان قد دخل في أزمته المالية. ولكن مع فتح الدول مطاراتها أمام حركة السفر، بدأ الطلب على الجوازات، ومع اشتداد الأزمة المالية، والاقتصادية، وتواتر المعلومات عن إمكانية نفاد مخزون الأمن العام من الجوازات، وعدم تمكّن الدولة من تأمين الأموال بالعملة الصعبة لشراء كميات جديدة، زادت وتيرة الطلب والتهافت على مراكز الأمن العام على مختلف الأراضي اللبنانية، ما أحدث إرباكاً وازدحاماً في المراكز وتعذّر عن التسليم ضمن المهل المحددة، قال بيان صادر عن الأمن العام في شباط/فبراير 2022 أنه يعود لأسباب إدارية وتقنية ولوجستية. لكن البيان توقف عند جملة معطيات استند إليها عند اتخاذ تدابير وإجراءات لاحقة. وهي أن نسبة 69 في المئة ممن استحصلوا على جوازات لم يستعملوها، وأن 20 ألفاً جدّدوا جوازاتهم في العام 2021، رغم أن صلاحيتها كانت تتخطى السنتين، وأن أعداداً كبيرة تفوق الـ15.000 جواز أُنجزت ولم يستلمها أصحابها.
بيان الأمن العام تلته إجراءات في شهر نيسان/أبريل قضت بإنشاء منصة للحجز المُسبق لمواعيد تقديم الطلبات. وأرفق ذلك بشروط ومستندات لا بدَّ من توافرها (إقامة في الخارج، متابعة علاج طبي، دراسة، عقد عمل، أو موعد سفارة للحصول على سمة)، وإذا كانت الوجهة المعلنة هي السفر لدول لا تفرض حيازة سمة مسبقة للدخول إلى أراضيها، فلا بد لمقدِّم الطلب من ضم تذكرة سفر مقفلة وإيصال يُثبت دفع ثمنها غير القابل للاسترجاع وحجز فندقي مع ما يثبت سداد ثمنه أو سند ملكية أو عقد إيجار في البلد المنوي السفر إليه.
بقي حجم تقديم الطلبات كبيراً يصل إلى حدود سبعة آلاف فيما كان المخزون ينقص أكثر، من دون الإفراج عن الأموال المطلوبة بالعملة الصعبة لشركة فرنسية مُكلّفة بتأمين طباعة جوازات السفر. توقف الأمن العام عن استقبال طلبات جديدة على المنصة، فتحرّك مجلس الوزراء واتخذ في أيار/مايو قراراً بتأمين الأموال للطباعة. طلبت الشركة الفرنسية تعهدات إضافية بالدفع، قدمها المصرف المركزي، وما إن وصل التحويل الأول إلى الشركة وباشرت عملها حتى عادت المنصة إلى العمل بوتيرة مواعيد بطيئة بما يتلاءم مع حجم المخزون المتوفر راهناً.
بدي ـ باسبوري
قبل أيام تصدَّر وسم ” #بدي ـ باسبوري” الترند في لبنان. أمر يعكس غضب الناس التي اصطدمت بحقيقة أن لا مواعيد على المنصة الإلكترونية لتقديم طلبات أقله قبل سنة. مَن دخل على المنصة مساء يوم الجمعة لحجز موعد مسبق، وجد أن أول موعد متاح في دائرة بيروت يعود إلى السادس من أيلول/سبتمبر 2023. هذا وحده كفيل بإحداث الصدمة. كيف يمكن للمرء أن ينتظر سنة وشهرين للحصول على جواز سفر يخوّله أن يغادر لبنان ساعة يريد هو، وليس ساعة يُسمح له بأن يمتلك جوازاً، لا بل الأنكى أن الموعد وحده لا يكفي ولو كان بعد سنة، ولا بد من أن يكون لدى صاحب الطلب سبباً لحاجته إلى “الباسبور” مدعماً بمستندات.
التغريدات على وسم بدي ـ باسبوري عبَّرت عن استياء كبير. فـ”الباسبور” حق لكل مواطن بأن يستصدره متى أراد من دون الحاجة للسؤال عن السبب، وما إذا كان بحاجة إليه أم لا، بغض النظر عن التبريرات التي يمكن أن يقدمها القيّمون على الأمن العام أو المسؤولون في الدولة. هذه مسألة لا جدال حولها، ويعلمها علم اليقين المدير العام الحالي للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الذي عزا سبب ما يحصل إلى صعوبات عدة من بينها التأخير في إتمام عملية تأمين جوازات السفر من الخارج التي لم تكن من مسؤولية الأمن العام، ولكنها تعود إلى ضيق حال الدولة ووضعها المادي، واعداً بأن هذه الأزمة قيد المعالجة مع المعنيين لإعادة الأمور إلى مسارها الطبيعي.
ما طلبه الأمن العام هو مليون ومئة ألف جواز سفر، الكلفة تصل إلى نحو 14 مليونًا و140 ألف دولار بمعدل 14 دولارًا للجواز الواحد. الكمية الأولى التي ستسلّمها الشركة الفرنسية تصل إلى حدود 400 ألف جواز خلال أربعة أشهر، وصل منها حتى الآن 30 ألف جواز. وما وضعه الأمن العام من شروط يندرج في إطار إطالة أمد المخزون على حساب الحق الطبيعي لكل مواطن في أن يكون في جيبه جواز السفر حتى ولو كان لا يريد أن يستخدمه. في تبريراته أن تلك الإجراءات في ظل الظروف الراهنة كفيلة بأن تؤمن حق التنقل لمن لديه المستندات المطلوبة، وهو حدّد الآلية لدرس ملف كل مَن يستجد لديه طارئ أو سبب يستدعي السفر ولو كان موعده لم يحن بعد وفق المنصة.
مسلسل الأزمات بلا نهاية
لا تُبدي أوساط مطلعة تفاؤلاً في إمكان إيجاد حل ناجع لجوازات السفر. هي أزمة تُضاف إلى أزمات الكهرباء، والرغيف، والمحروقات، والدواء، فيما الدولة مديونة وهدرت خلال سنتين مليارات من الدولارات من الاحتياطي لدى مصرف لبنان على سياسة دعم فاشلة، بحيث أضحى تأمين بضعة ملايين من “الفريش دولار” لتغطية كلفة تأمين الجوازات مسألة صعبة، على الرغم من أن المواطنين يدفعون ثمن الجوازات التي من خلالها يرفد الأمن العام مالية الدولة، ولكن لا يحق له الإبقاء على الأموال في حساباته لإعادة تمويل جوازات جديدة، بل إن الآلية لا بد من أن تسير من خلال آلية الصرف المعتمدة في الدولة عبر الوزارات المعنية ووفق القانون.
يجزم مطلعون أن لا خلفيات أو مناكفات سياسية وراء المماطلة في تأمين جوازات السفر، لا بل إن في ذلك مصلحة لجميع القوى على ضفتَي السلطة والمعارضة، وبمختلف انتماءاتها، فالهجرة، ولا سيما في سبيل البحث عن فرص عمل، من شأنها أن تُخفّف الضغط الداخلي بفعل ارتفاع نسبة البطالة وتراجع القطاعات الإنتاجية وسبل تحصيل لقمة العيش، كما من شأنها أن تُوفر تدفق “الفريش دولار” إلى لبنان. ولكن مع استفحال الأزمات وتكاثرها سيكون لتحديد الأولويات جوانب إيجابية وأخرى سلبية، بحيث يصحّ معه السؤال: أيهما يأتي في المرتبة الأولى: تأمين الحق بجواز السفر أم رغيف الخبز؟ حين يُفقد رغيف الخبز ويتقاتل الناس أمام الأفران من أجل الحصول عليه، يُصبح ما بعده من أزمات غير مُفاجئ وغير صادم، سواء كان عنوانها العتمة الشاملة، التي كادت البلاد أن تدخل في مدارها قبل أيام، أو السجن الكبير الذي بات اللبنانيون أسرى له، ليس فقط بفعل شحّ جوازات السفر فحسب، بل بفعل تصنيفه من الأسوأ عالمياً، وبفعل ضرب سمعة لبنان وشعبه الذي يختبرُ أنواعاً جديدة من الذلّ بعضها مِن صنع أيديه.
القدس العربي
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
10-07-2022 11:18 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |