03-08-2022 09:32 AM
سرايا - في الذكرى التاسعة عشرة* لرحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمد القيسي (1944- 2003) لا بد من شيء يُذكِــّر به، وبشعره، فقد شغل شعره الكثير من الدارسين، والباحثين، نظرًا لغزارته، وتميزه على شعر غيره. فمن بين النقاد، والشعراء النقاد، الذين كتبوا عنه قصي الحسين، ورجاء النقاش، وأحمد دحبور، وشوقي بغدادي، وإحسان عباس، وجودت فخر الدين، وخليل أحمد خليل، وخليل السواحري، وراسم المدهون، وعبد الرحمن ياغي، وعمر شبانة، وعناية جابر، وفخري صالح، ومحمود الريماوي، وياسين رفاعية، ويوسف أبو لوز، ويوسف ضمرة. وكنت قد جمعت بعض ما كتبتُه،ونشرته، عنه وعن شعره، في كتاب صدر في العام 1998 ببيروت. وتناولت شعره أيضا في كتاب آخر بعنوان محمد القيسي قيثارة المنفى وتباريح الشجن. وتناول ما كُتب عنه بالجمع، والتحرير، محمد العامري- الفنان الشاعر- في كتاب صدر في بيروت بعنوان المغني الجوال 2001. واللافتُ أنّ الدراساتِ كثُرت، وتواتَرَت، بعيد هذه الكتب. فأعدت كل من حنان عمايرة، ورلى عصفور، أطروحة عن شعره، الأولى رسالة ماجستير، والثانية رسالة دكتوراه، نوقشتا في الأردنية. وقُدِّمَتْ في جامعة لاهور بباكستان رسالة عن التناصّ الديني في شعره 2014 وفي جامعة النجاح بفلسطين رسالة عن «البنية الدرامية في شعره» لدعاء علي عبد الله، ونُشرت في كتاب. وأخرى بالعنوان ذاته «البنية الدرامية في شعر القيسي» لإسلام شاهر الحليفاوي في جامعة الخليل. وقُدمت، ونوقشت، في الأزهر الإسلامية بغزة، رسالة أخرى عنوانها» القيسي حياته وشعره «. ونَشَرت إيهام زياد بحثا بعنوان «العَتَبات النصية في شعر القيسي» (دراسات، 2019) وعماد الضمور: «سردية الشعر في منمنمات أليسا» (مجلة جامعة النجاح، مج 23، ع 2، 2009) وهناء البواب نشرَتْ بحثا عن الصوت، وعلاقته بالدلالة، في شعره (مجلة العلامة، حزيران 2018) وعمر العامري أعد بدوره أطروحة عن «الاغتراب في شعر القيسي» نُشرت في كتاب. وهذا غيضٌ من فيضٍ كُتب عن القيسي، وعن شعره، ونثره. وقد تضمَّن عددُ مجلة أوراق (2004) البحوث،والدراساتِ، التي قُدّمتْ في ذكراه، ومن بين ما نُشر فيه دراستنا للُغْز الأنا في شعر القيْسي ونثره.
أما الدكتورة الشاعرة نبيلة الخطيب، فقد أعدت عنه، وعن شعره، أطروحة دكتوراه نُشرت بدعم من وزارة الثقافة، بعنوان «شعرُ محمد القيسي في ضوءِ جمالياتِ التلقّي: قراءَةٌ في أفق التوقّع».
أما عن غايتها المنشودة، وبغيتها المقصودة، من هذا التأليف، فهي التتبّع بالتحليل العميق، والتقصي الدقيق، لوجوه الإبداع في شعره دون نثره. وعلاقة ذلك كله، أو بعضه، بأفق التوقّع، وكسْره، بصفتها، أي المؤلفة، قارئة هذا الشعر، والمتلقيةُ التي تقف على ما ظهَرَ فيه وما بطَن. وتبعًا لذلك تمهد لقراءتها هذه بتمهيدٍ، وتوطئةٍ، عما يعرف بنظرية التلقي، وجاء هذا التمهيد مختصرًا اختصارًا شديدًا إذ لا يتعدى بضع صفحات من 21 - 37 مع أن هذا القليل أقامت عليه دراسَة الكثير،متجاوزةً في قراءتها لشعره نحو 240 ص عدا الخاتمة القصيرة، وفهارس المراجع. والقارئ الذي لا دراية له، ولا خبرة، بهذه النظرية، سيلاحظ أن هذا التمهيد غير كافٍ. وأن المؤلفة تحاول أن تتوغل في الحديث عن أساسيات هذه النظرية لكن الرغبة في الإيجاز تحول بينها وبين العرض الكامل، المترابط، لأفكار كلٍّ من آيزر، وهانز روبرت ياوس. مقتصرةً، بدلا من ذلك، على اقتباساتٍ منتقاة من كتاب «نظرية التلقي» لهولب الذي ترجمه المرحوم عز الدين إسماعيل. وبعض الملاحظات المجتزأة من» بلاغة الخطاب وعلم النص « لصلاح فضل، وبعض ما ورد في كتاب رامان سلدن الذي ترجمه للعربية المرحوم جابر عصفور بعنوان «النظرية الأدبية المعاصرة». وغاب عن هذا التمهيد الكثير مما كُتبَ، ونُشر، عن نظريتي التلقي، والتأويل، مما لا يتسع هذا الموقع لذكره، وحصْره.
والواقع أنّ جلَّ ما قيل، ويُقال، عن نظرية جديدة فيالقراءة تحت مسمى التأويل تارة، أو التلقي تارة أخرى، شيءٌ لا جديد فيه، ولا مزية. والشيء الوحيد الذي جاءت به هذه النظرية هو تجاهلالمبدع، وتجاهل النصّ، والتركيز على القارئ. وأما الحديث عن أفق القارئ، وأفق النص، وأفق المتلقي، وحاجز التوقع، وكسره، فهو - في رأينا - لا يعدو كونه حذلقة محدثين يريدون أن يثبتوا للآخرين أنهمعلى مذهب شيخ المعرّة :
وإني، وإنْ كنتُ الأخيرَ زمانُهُ،
لآتٍ بمـا لــمْ تسْتَطِعْـهُ الأوائِلُ
الأنا والآخر:
وهكذا نجد المؤلفة تعْدِلُ عن أفق القارئ لتحدثنا في الفصل الأول عن « الأنا والآخر». مكتفية من العنوان بهاتين الكلمتين، معوِّلةً على زكانة القارئ، ونفاذ بصيرته، فيقومُ بزيادة ما هو ضرورة ليصبح العنوان « الأنا والآخر في شِعْره «.والحرص على التكثيف، والاختصار، يمنع المؤلفة الشاعرة من التطواف على مفهوم الأنا، ومفهوم الآخر، لتحديدهما، فهما مفهومان لهما مدلولهماالمصطلحي الشائع في الدراسات الأدبية، والمقارنة. وقد يُعْزى ذلك لكون الموضوع لا يتسق مع منهج الاحتفاء بالمتلقي،بدلا من المبدع، الذي تقصيه نظرية التلقي من الأضواء، حتى ردَّدتْ بقوة مقولة « موت المؤلف «. بمعنى أن معرفتنا به، وبهواجسه،معرفة غير ضرورية، وليست لها قيمة. ومع ذلك، فإن نبيلة الخطيب، حرصًا منها على الوفاء لذكرى هذا الشاعر، قدمت لدراستها بنبذة عنه. فذكرت أن ولادته كانت في العام 1944 في بلدة كفر عانة على كثبٍ من يافا بفلسطين. وأنه طُرد فيمن طردوا منها عام 1948 ليستقرّ هو وأسرته في مخيم الجلزون على مقربة من رام الله، وأنه درس في مدارس الأنوروا، والمدارس الحكومية، وفي معهد قلنديا المهني، وانتسَب لجامعة بيروت العربية، وظفر بالشهادة الجامعية الأولى التي تؤهله للعمل مدرسًا للغة العربية في مدارس الكويت، والسعودية، وليبيا. وتنقّل في عواصم عدة منها: دمشق وبيروت وطرابلس وتونس ولندن وطهران وعمان وبغداد والقاهرة والجزائر، لكن استقراره كان في بلدة الرصيفة بين عمان والزرقاء، وفي آخر أيامه استقرَّ بعمان في حي المدينة الرياضية مقابلَ صرح الشهيد. أما آثارهُ، فقد استقصتها في صفحتين، بيد أنها اقتصرت على الشِعْر، ولم تذكر جهوده الأخرى في النثر، ومنها كتابه (الهواء المقنع) و(كتاب الابن) وهو سيرة، والحديقة السرية، وهي رواية، وشرفة في قفص، وهي رواية أخرى صدرت بعد رحيله بعام 2004.
وعُذْر المؤلفة - ها هنا – واضحٌ، ومعروفٌ، فهي لا تدرس في الكتاب إلا شعره. وهذا ربما يكون كافيا بل أكثر من كاف. وبالعودة للفصل الأول، نجد المؤلفة تقتفي- للأسف - أثر بعض الدارسين ممن لا يتّضح لديهم ما المقصود بالأنا، وما المقصود بالآخر. وقد أحالتنا لمؤلفاتٍمن هذا النوع. منها «جدل الأنا والآخر في الشعر الصوفي «. ومثل هذا ما نود التذكير به، وهو « الآخر في الرواية الفلسطينية النسوية « وكذلك دراسة نُشرت بعنوان « الأنا والآخر في الشعر الجاهلي «لزينة غنيم. فالآخر في هذه الدراسات مُخْتلفٌ فيه. فكل من هو مباينٌللذات يُعد في نظر مؤلفيها آخر. وعند الدكتورة نبيلة تعد الأم آخر، والمرأة آخر، والزوجة آخر، والحبيبة آخر. وهي مع ذلك تسمي هذا الآخر تارة مؤتلفا، وتارة مختلفا، وطورًاخصيما أو ضدًا أو نقيضًا أو عدوًا. ومع أننا لا نجد الفرق بين المختلف، والخصيم، والنقيض، والضد،فرْقًا واضحًا، إلا أن هذه التقسيمات في نظرنا غريبة عن هذا الإطار الذي يكثرُ تناوله في الدراسات المقارنة. وهذا التقسيم،كالتقسيم إلى إيجابي، وسلبي، كله مما بُني على فكرة غير واضحة. فالأنا، في ما نعرفه في الدراسات، هو الشخص الذي يجري عليه التركيز في الرواية، أو في الشعر، مقابل آخر من جنسٍ آخر، وثقافةٍ أخرى. ولتوضيح هذا نورد المثال الذي تناوله كثيرون تحت مُسمّى الأنا والآخر، وهو رواية « موسم الهجرة إلى الشمال « للطيّب صالح. فالسوداني مصطفى سعيد بطل الرواية هو الأنا، وجين موريس الإنجليزية، ومن شابهها، وشاكلها، من الشخصيات البريطانية، هو الآخر.
وفي رواية سجين المرايا لسعود السنعوسي يعد عبد العزيز- الشاب الكويتي – الذي قدم إلى لندن بهدف تعلم الإنجليزية،هو الأنا، وجاكلين السيدة الإنجليزية، والشخصيّات الأخرى، بمن فيها صاحب بيت الزنبق، والشابة الرقيقة( كاترين) التي كادت تبكي يوم سفره، هم الآخر. وفي قصيدة « شتاء ريتا الطويل « لمحمود درويش يعد المتكلم الفلسطيني هو الأنا، وريتا الإسرائيليه هي الآخر. ولايُعقل أن تحتسب الأم بالنسبة للشاعر القيسي آخر، ولا المرأة، ولا الحبيبة، ولا الصديق. ومما هو جديربالذكر، خليق بالترجيح، أن القيسي من أكثر الشعراء التفاتا للذات، ولمن يحيطون بها، كالأم حمدة، والأب الشهيد، والأخت زكية، التي توفيت في أيام الهجرة المبكرة. والأصدقاء، والحبيبة، التي شغلته كثيرًا « في الحديقة السرية « والشهداء من أبناء الوطن. لهذا لا نرى في مقولة الأنا والآخر ما يستحق البحث في شعره، مثلما هي الحال في شعر سميح القاسم، مثلا، ومحمود درويش، أو في رواية إميل حبيبي (المتشائل) أو في قصص محمد علي طه، أو حنا إبراهيم.
المفارقة في شعره:
في الفصل الثاني الموسوم بعنوان « المفارقة « توحي المؤلفة بأنَّ الحديث عن هذه الظاهرة حديث عامٌ لا يختص بالقيسي، ولا بشعره، ولا بالتلقي، ولا بأفق التوقع، وحواجزه. وهذا يتضح من العناوين الفرعية. فبعد أن تعرف المفارقة لغةً، واصطلاحًا، تتناول أنواعها، وتعَرّفُ كلا منها: المفارقة اللفظية، ومفارقة الموقف، أو الحدث، والمفارقة الرومانسية، والدرامية؛ من ساخرةٍ، وغير ساخرة. وهذه الأنواع لكل منها تعريفٌ مقتبسٌ من بعض الدراسات، لكنها جميعا ذكرتْ في كتاب ناصر شبانة عن « المفارقة في الشعر العربي الحديث «. ولا يخفى أن لديه مسوغًا للحديث عن هذه الأنواع، كونه يتناولها لدى عدد من الشعراء، وليس لدى شاعر واحد. لكن المؤلفة جشّمت نفسهاعناءالتحدث عن هذه الأنواع جميعًا على الرغم من أن ذلك غير ضروري، لأن بعضها لا وجود له في شعر القيسي. والدليل على هذا أنها في تركيزها على شعره، وما فيه من مفارقات، تناست هاتيك الأنواع، وساقت ما جاء عن شعره ضمن سياق واحدٍ عن المفارقة، باستثناء إشارة واحدة ص 174 في تعليق لها في الهامش على بعض الأبيات زاعمةً أنها تندرج في المفارقة الدرامية، مؤكدة أنها أكثر المفارقات حضورًا في شعره.
الإيقاع. الصورة. النص:
وفي الفصل الثالث من كتابها تبتعدُ الدكتورة نبيلة الخطيب عن نظرية التلقي، وعن أفق التوقع ،وكسره.فقد غلب عليها الاعتماد على مصادر عربية قديمة تقليدية. كالعُمدة لابن رشيق، ونقد الشعر لقدامة، وكتب العروض، والبلاغة، بما هي عليه من طابع تقليدي جافّ، باستثناء كتاب» البنية الإيقاعية « الذي لا يخلو من بعض الإدعاءات، لكمال بو ديب. وعلى مراجع أجنبية لا صلة لها بأفق التقي، قطعًا، ككتاب ريتشاردز « مبادئ النقد الأدبي « الذي ترجمه المرحوم محمد مصطفى بدوي. وبعض مقالات إليوت، وكولردج، وأوستن وَرنْ Warren، ورينية ويلك، وآخرين.. لا علاقة لهم من قريب، أو من بعيد، بهذا النوع من القراءَة. ووُفّقت المؤلفة في الكشف عما في شعر القيسي من بديع الصنعة الموسيقية، والوزنية، مع أنه كتَبَ، ونشر ما يعرف بقصيدة النثر، وكان فيها من البارعين. ولكن المؤلفة تغضُّ النظر عن هذا الجانب لسبب لم تذكره.ووُفقت أيضًا، وبعيدًا عن التلقي ونظريته، في الكشف عما لدى القيسي من صور شعرية مبتكرة. ولو أننانتمنى لو ابتعدت عن التقليد في هذا الجانب. فهي تشير كثيرًا لما يعرف بالمحسنات البديعية، والكناية، والتورية، والجناس التام، والناقص، والجناس الاشتقاقي، وللتشبيه، والاستعارة، مما يحيلُ هذا الجزء من دراستها لدراسة بلاغية، أينّ منها التلقي؟ ولا أستبعد أن يشعر بعض القراء، لا سيما المتمرسون منهم بقراءة الشعر الحديث، ونقده، ببعض الاسْتهجان؛ لأن المؤلفة التي تَعِدُ في مقدمتها بتقديم دراسة، أو قراءة جديدة، تختلف عن سائر القراءات، بتركيزها على التأويل، والتلقي، تقدم لنا دراسة قلَّ فيها الجديد، وكثرَ التقليدُ، والترديد.
على أنّ هذه الملاحِظَ- كغيرها- مما يذكر عن الدراسات النقدية، والأدبية، التي يعتزم مؤلفوها تطبيق أدوات وطرائق نقدية جديدة، لا تقلّل من قيمة الكتاب، ولا من الجهد النقدي الذي يتجلى فيه. فقد اجتهدت في ارتيادِ نهج من القراءة، والبحث، فكان لها من هذا الاجتهاد أجْرُ المجتهدِ إنْ أخطأ، وإنْ أصاب.