08-08-2022 09:12 AM
سرايا - يقدم لنا محمد داودية سرديته الروائية الرائعة (من الكسارة إلى الوزارة)، سيرة ذاتية تتداخل فيها وتنصهر أشكال وأساليب أدبية متعددة، تُقرأ سيرة ذاتية، رواية تاريخية وسياسية، أدبا واقعيا.
لقد طوع كاتبنا الأستاذ محمد داودية أساليب الكتابة وصاغها بمهارة وإبداع، فأبدع في نقلنا عبر فضاءات زمانية ومكانية، واستطاع أن يتنقل بنا بين مدن وقرى على امتداد الوطن، وكأنهما مكان واحد تتداخل فيهما غربة من زمان وتوحد في المكان.
وكما يدهشنا العازف الذي ينقل أنامله بمهارة على أوتار آلة القانون، هكذا كانت سرديات الداودية، تنقلنا من مكان إلى آخر، عبر فضاءات الزمان بماضيه وحاضره، واستشراف مستقبلي بتناغم فريد دون أن نشعر بفواصل زمانية تخل ببناء النوتة الناظمة لبنية الرواية.
السردية -الرواية التي أبدعها كاتبنا هي فضاء مزدحم ببوابات الزمان، كل صفحة ثقب اسود يجذب القارئ بقوة إلى ماضينا، إلى عصر الآباء والأجداد، نعيش حياة البساطة والقناعة بتفاصيل تفاصيلها.
ليس سهلا على أي كاتب أن يشد القارئ إلى تفاصيل تجعله يعيش اللحظة ويتذوق طعم الزاد، حيث مرارة و حدّة طعم زيت الزيتون في الحلق، كأننا نتذوقها للتو، مشاركينه ذات (الكيلة) التي غرف بها الزيت. وبالتأكيد كل منا قد حسده على (صينية الأستاذ المليئة بقطع اللحم الكبيرة عندما ادعى كاتبنا حيلة أنه محمّى عن أكل الأرز).
لقد جعلنا الكاتب نشاركه تفاصيل الحدث، رائحة دخان الحطب، برد الكوانين القارس، وقيظ تموز الحارق.
فتح لنا داودية من خلال سرديته بوابات الزمن، وجعلها مشرعة أمامنا، نتنقل بحرية، نغوص في الماضي، نرجع إلى واقعنا، ونستشرف مستقبلا نتمناه الأفضل.
سردية كاتبنا الروائية، تزخر بالأبعاد الإنسانية والاجتماعية، فنرى الكاتب يعلي من شأن العمل كقيمة إنسانية وضرورة حياة، ويرفع شأن العمل الشريف، يفخر بالعمل موزعا للصحف، تاجرا ومزارعا، معلما أو عاملا في مطعم، أفتخرَ بكل هذه المهن التي عمل بها، ولكننا لم نجد كلمة تفاخر أو لحظة غرور، عندما تحدث عن المناصب التي تقلدها، والتي استحقها بجدارة وكفاح.
وباعتقادي يعود هذا، لأصالة الكاتب وجذوره الضاربة العمق والممتدة على مساحة الوطن مدنا وريفا وبادية، حيث تنقل في رحابه، إما عاملا أو موظفا أو مطاردا أيام العمل السياسي السري.
سردية كاتبنا صور وأحداث، وحيث إن الأحداث الهامة والمصيرية في حياة الأفراد و الشعوب لا تتم بشكل مفاجئ، ولا تكون ابنة لحظتها، فللحدث مقدمات، وحالما تكتمل هذه المقدمات يتم الحدث، والأحداث محطات ودروس، أدركها داودية مبكرا وواجه حقائقها بجرأة وموضوعية. انتكاسة هنا ونجاحات هناك، كانت الإخفاقات دروسا، والنجاح مكافأة الصبر والكفاح، فلم يتنكر للكسارة، ولم تُغوِه الوزارة.