23-08-2022 09:05 AM
سرايا - الأديب محمد رمضان الجبور
من الدواوين الصادرة عن دار ظمأ للطباعة والنشر ديوان للشاعرة باسمة العوام، وقد عنونت ديوانها بعنوان يحمل في طياته دلالات متعددة ومختلفة، (عزف على أوتار الهايكو)، فمفردة عزف تحتمل دلالات عديدة، فالعزف مع الكلمة الدالة والمضافة إلى المفردة أوتار يعني العزف على آلة موسيقية ذات ألحان، ولكن عزف الشاعرة في هذا الديوان قد تعددت طبقاته فهو يحمل الألم والأمل، والحزن والفرح، والخوف والأمن، فهو عزف على أوتار ولكنه غير محدد، ثم تأتي كلمة ومفردة هايكو، لتكون هذه المفردة المفتاح الرئيسي للدخول إلى متن العمل الأدبي، فوجود مثل هذه المفردة يضيء الطريق أمام المتلقي بأنه أمام ديوان قد ضم بين دفتيه مقطوعات من ذاك النوع الذي برز على الساحة الأدبية حديثاً وأخذ موقعه من كتب الأدب والشعر، وقد يكون من الصعب تناول التفاصيل المتعلقة بهذا النوع من الشعر الحديث في عجالة، فقد أصبح لهذا اللون من الشعر أنصاره ومحبيه، ولكن لا بد من الوقوف على بعض الجوانب في هذا اللون من الإبداع الشعري ما دامت الشاعرة باسمة العوام قد صرحت في عنوان ديوانها باسم هذا اللون من الشعر الحديث.
التغير والتطوير يظل سمة من سمات هذا الكون الكبير الواسع، فقد مرّ الشعر العربي بمراحل عديدة، وكان لكل مرحلة من هذه المراحل ما يميزها، وظهر لنا في كل فترة لون جديد من الوان الشعر يتماشى مع العصر الذي برز فيه ومع حركة التطور والتغيير، فمن الشعر العمودي إلى الشعر الحر وشعر التفعيلة الذي تطور على أيدي مجموعة من الشعراء، ممن تبنوا هذا اللون من الشعر، أما ما نحن فيه الآن، فقد ظهر بقوة لون جديد على الساحة الأدبية وهو ما سمي بقصيدة الهايكو، وقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعية الحديثة والمختلفة على انتشار قصيدة الهايكو التي تعتمد التكثيف والإيجاز والسرعة، وقد ظهر هذا النوع أول ما ظهر في اليابان حتى وسم هذا النوع بالهايكو الياباني، وكان ذلك في العام 1694، ويقال «أن ظهور الهايكو يرتبط بالرهبان البوذيين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر وتكامل فنيا في القرنين اللاحقين» [1]
تعددت أساليب كتابة قصيدة الهايكو، مما فسح المجال أمام الشعراء للتنويع في قصائدهم.
وتذكر جين ريجهولد (وهي شاعرة هايكو أمريكية معروفة)» ثلاثة وعشرين أسلوبا لكتابة الهايكو وتذكر أمثلة لكل أسلوب. وأهم هذه الأساليب : أسلوب المقارنة، وأسلوب التقابل، وأسلوب التداعي، وأسلوب اللغز، وأسلوب تغيير المعنى، وأسلوب تشديد التركيز، وأسلوب المجاز، وأسلوب التشبيه، وأسلوب التورية، وأسلوب اللعب بالكلمات، وأسلوب استبدال الأفعال والأسماء، وأسلوب التناقض، وأسلوب المرح» 2
كان لا بد لنا من هذه الإضاءة قبل الولوج إلى ديوان الشاعرة باسمة العوام ( عزف على أوتار الهايكو) ونقف على بعض النماذج في هذا الديوان
ففي نص بعنوان (سجينة) تقول الشاعرة:
سجينة/ ترقص بألوان الطيف/ نار المدفأة
فالشاعرة تصوّر لنا مشهداً مألوفاً، وتشد ذهن القارئ لهذه السجينة التي ترقص، ولكن المشهد والصورة لم تكتمل بعد، فالرقص للسجينة غير منطقي، ولكن هذه الدهشة تزول بعد اكتمال الصورة وظهور نار المدفأة
وفي نص آخر بعنوان (عمياء) تقول
عمياء/ تقود المبصرين/ بوصلة
فالصورة الأولى التي تتكون لدى المتلقي أو القارئ، صورة العمياء، ثم تزداد الصورة غرابة عندما يعلم المتلقي أن العمياء تقود المبصرين، ويزول الشك وتتضح الصورة عندما يعلم أنها البوصلة، التي لا غنى عنها لمن فقد تحديد الاتجاهات ولو كان مبصراً، فالمشهد الذي اختارته الشاعرة مشهد وصورة من صور الطبيعة، وهذه سمة من سمات شعر الهايكو الذي يهتم بالطبيعة، بل أن الطبيعة ووصفها عنصر من عناصر شعر الهايكو
الإيحاء واستخدام الرمز من العناصر الهامة في قصيدة الهايكو، وتحث المتلقي على التأمل العميق، ومد حبال الخيال لما يشاهد، ففي نص تقول الشاعرة
ليس وحيداً / سجين آخر يغني له/ عصفور
المشهد الذي تصوره الشاعرة مشهد عادي جداً، فالعصفور الموجود في القفص قد سُلبت حريته وأصبح سجيناً، وسجنه لم يمنعه من الغناء رغم فقد حريته، والسجين الآخر الذي فقد الحرية أيضاً أصبح يترنم بغناء ذلك السجين، وكأن الشاعرة تريد أن تصور لنا مدى أهمية الحرية سواء كانت للإنسان أو حتى لهذا العصفور المسكين الذي أصبح بين جدران القفص، الحرية والفرح، والحزن والألم، صور يوحي بها هذا النص العميق.
لن نخوض كثيراً في أشكال وعدد أسطر قصيدة الهايكو، ولكن لا بد لنا أن نوضح أن قصيدة الهايكو اليابانية قد حددت عدد المقاطع واعتمدت ذلك، فهي سبعة عشر مقطعاً مقسمة إلى خمسة وسبعة وخمسة، وقصيدة الهايكو الأمريكية اعتمدت ثمانية أو تسعة مقاطع، ولكن قصيدة الهايكو جرى عليها الكثير من التطوير والتغير حتى أصبحت بالشكل المتعارف عليه الآن، فكثير من الشعراء العرب كتبوا قصيدة الهايكو بما لا يزيد على ثلاثة مقاطع، تقول أ. د بشرى البستاني :
«إن الهايكو لحظة جمالية لا زمنية في قصيدة مصغرة موجزة ومكثفة تحفّز المخيّلة على البحث عن دلالاتها، وتعبر عن المألوف بشكل غير مألوف عبر التقاط مشهد حسي طبيعي أو إنساني ينطلق عن حدس ورؤيا مفتوحة تتسع لمخاطبة الإنسان في كل مكان، من خلال ومضة تأملية صوفية هاربة من عالم مادي ثقيل محدود ضاق بأهله» 3
بثوب عزاء / تراقص الساهرين/ نجوم الليل
المشهد الأول أو الصورة الأولى (بثوب عزاء) صورة عادية ليس فيها ما يدعو للدهشة أو الاستغراب، الصورة الثانية أو المشهد الثاني (تراقص الساهرين) يصدم المتلقي ويترك له فسحة كبيرة من التأمل، فهو ليس مشهداً عادياً، فوجود ثوب العزاء يعني الحزن،الألم، وبعيد كل البعد عن الرقص والفرح، فالصورة الثانية لا تتناسب مع الصورة الأولى وتحدث الدهشة، ولكن سرعان ما تأتي الصورة الثالثة لتزيل هذا الشك وهذه الدهشة التي تكوّنت في ذهن المتلقي، فلم تقصد الشاعرة إلا النجوم، فثوب العزاء ما هو إلا الليل، والذي يراقص الساهرين، هي النجوم وجمالها الذي يظهره ويوضحه هذا الظلام.
ولا أريد أن أطيل في تحليل نصوص الشاعرة باسمة العوام، فقط هي نماذج من ديوانها الصادر حديثاً، وقد وجدت الكثير من المتعة والفائدة وأنا أمرّ على ما دونت الشاعرة من صور جميلة، حاكت فيها الطبيعة والحياة، مما يدل على ثقافة الشاعرة الواسعة وتمكنها من توليد الصور الجديدة، وقبل أن أنتهي أردت أن أضع بين يدي القارئ أو المتلقي مجموعة من قصائد الديوان ليتأمل المتلقي جمال الأسلوب واختيار الصور الرائعة.
طريق شوك / بلا أحذية تعبر / أفاعي
ضربة شمس / تجعلها كالعسل / حبّات التمر
بين الوسائد / أحضنها كل ليلة / صورة
فوق السرير/ تقبله كل صباح/ أشعة الشمس
في حضن الرماد/ يدفنها بيديه/ أعقاب السجائر
من ثقب الباب/ يتنفس السجين/ برودة العتمة
تظل قصيدة الهايكو رغم تكثيفها وإيجازها قصيدة مكتملة تحقق النشوة للمتلقي والانبهار والدهشة، وهذا من أهم سمات هذه القصيدة، وقد اعتاد أغلب شعراء الهايكو العربي من الاعتماد على ثلاثة أسطر في نظمهم لقصائدهم.
الهوامش:
1)شعر الهايكو الياباني وإمكانياته في اللغات الأخرى،أ.د. حمدي حميد الدوري،ط1،2018دار الإبداع، العراق، ص 9
2) المصدر السابق ص 19
3)الهايكو العربي بين البنية والرؤى، دراسة أدبية، أ.د. بشرى البستاني