27-08-2022 02:32 PM
سرايا - د.عمر الخواجا - لتناول الشــاي طقوسه المميزة في عادات وتقاليد الشعوب والتي تختلفُ من حيث طريقة إعداده والأدوات المستخدمة في تحضيره والمواد الإضافية الضرورية لتجهيزه وكيفية تناوله والأحاديث المتداولة أثناء جلساته الممتعة ، في رواية نادي الصنوبر تستخدم الكاتبة ربيعة جلطي هذه الطقوس المميزة كمدخل رئيس لحكاياتها المتدفقة التي تصلُ لقارئ الرواية دون تعقيد أو تسطيح ،حيث تأخذنا في أجواء سردية نحو عوالم مختلفة من الحقائق والتناقضات والأفكار فنكاد نشعرُ برائحة الشاي المغليّ وهو ينسكب رويدا في الكاسات المصفوفة أمام الحاضرين وعيونهم تراقب كيف يهبط ابريق الشاي ثم يصعد بعد أن تمتلأ الكاسات بسائل ملون عابق برائحة قوية جميلة .
في رواية ( نادي الصنوبر ) كثير من الأفكار والتناقضات الاجتماعية والسياسية حيث نلمس الصّراع بين المواطن المسحوق والمسؤول الفاسد ونقرأ عن الأنثى ومعاناتها من التفرد الذكوري والسيطرة الاجتماعية للزوج ونشاهد صورة حيّة للصّراع بين المدينة ( العاصمة ) باتساعها وأنماطها المختلفة والصحراء بعاداتها وتقاليدها ، في رواية نادي الصنوبر تُمثّلُ جلسات تحضير وشرب الشاي طقساً عابقا بالحكايات حيث تأخذنا كاتبة الرواية في رحلة عقلية وعاطفية نحو مجتمع الطوارق بتماسكه وقدرته على الصّمود في وجه التمدن والحضارة والغلو في الاندماج الاجتماعي.
تمزج الكاتبة ربيعة جلطي نكهة طقوس الشاي بعبق الحكاية حيث تُهيّء القارئ للولوج إلى أعماق النّص الروائي من خلال صورة مُتقنة لطريقة تحضير الشاي (… تلج الصالة وبين يديها صينية كبيرة نحاسية، تحتضنها بعناية فائقة وكأنما هي طفل تخاف عليه، عليها علب من صفيح مزركشة بألوان ورسومات غاية في الدقة، علبة الشاي، علبة السكر، وربطة كبيرة من النعناع، وحزمة صغيرة من نبات (الشـهيبة)، ومجمر تطقطق جمراته الحمراء الناطقة وصحن من البلح … ص 8) … من هي الحاجة عذرا صانعة طقوس الشاي؟ الحاجة عذرا هي ابنة الطوارق القادمة من الصحراء بتقاليدها وعاداتها حيث أسكنها زوجها الخليجي الوسيم حيا راقيا يتواجد فيه علية القوم من مسؤولين وتجّار وأثرياء يسمى ( نادي الصنوبر) ، تمثّلُ الحاجة عذرا رمزا اجتماعيا مُتخماً بالأفكار والحكايات وهي بطلة الرواية المطلقة والتي تحكي حكايتها للفتيات الثلاث ( زوخا ونسيمة وبايا ) اللواتي يستأجرن شقة من بنايتها في قلب العاصمة وكي تدخل بنا الكاتبة في عمق الحدث تصف لنا مستخدمة موهبتها الشعرية وقدرتها السردية طريقة الحاجة عذرا في إعداد الشاي ( …وكالعادة تبدأ في تحضير الشاي على طريقتها الخاصة ، تضع كمشة من الشاي الأخضر في البرّاد (الابريق) القابع في الوسط رافا أنفه بشموخ ، تشلله بقليل من الماء المغلي ، تتركه قليلا ثم تشلله مرات أخرى مطوحة ذراعها كله تلوح بالبراد ( الابريق ) في الهواء ، حتى تكاد تسمع حشرجة حبيبات الشاي بداخله ، وتعيد الماء ليغلي فوق المجمر .. للماء المغلي الفوار سحر لدى الحاجة عذرا أشعر أن بعينيها لذة قصوى وفرحا عارما، لا تفتأ تنظر إلى الماء المغلي وهو يئن فوق النار. تضع قطع السكر الكثير ثم تنتظر قليلا قبل أن تقلبه في كأس كبيرة عدة مرات لتعيده إلى البراد وتملأه أخيرا حتى التمام بالماء المغلي، تفكك ربطة النعناع المنظف ذي الأوراق الحرشاء بتوأدة وحب واعتناء، وكلما حركته فاضت منه رائحته المهدئة ثم تضعها جانبا وكأنها تريد أن تنعش رائحتها المكان قبل أن تدسها أخيرا في براد الشاي ذي اللون الفضي وتضيف في الأخير نبتة الشهيبة ذات الرائحة النفاذة المنعشة …. ص 8).
في رواية نادي الصنوبر ترتبط طقوس الشاي بلذة رواية الحكاية (في الحقيقة الحاجة عذرا لا يأسرها شرب الشاي كثيرا مع العلم انها لا تستغني عن سحره أبدا بقدر ما تعشق طقوس إعداده وتوزيع كؤوسه والتمتع برؤية راشفيه وببهجة المتمتعين بلذته ولذة الحكاية التي ترافقه مثل حلوى محشوة بالتمر الناضج … ص 9 ) هو عبق الحكاية الذي يمتزج مع نكهة الشاي من خلال القدرة الهائلة التي تمتلكها الحاجة عذرا في تهيئة أجواء الجلسة لسرد حكايات الماضي القادم من مساحات الصحراء الشاسعة ( قعدة الشاي مقدسة يا بنات ) هكذا تصف عذرا طقوس الشاي وكأنّ هذه الأجواء ذات الحضور الخاص تاخذها بعيدا وترحل بها من حاضر المدينة وواقعها نحو تاريخ الصحراء وماضيها فتسرد حكاياتها وهي تعزف على الآلة ذات الوتر الوحيد ( آلة الإمزاد ) ( انها تحتاج الى من ينصت الى حكاية حياتها الغريبة الغنية بالأحداث التي لا تكرر سردها ولم يحدث أن سمعنا قولا لها مرتين حتى أننا نشكّ في حقيقة بعض التفاصيل العجيبة في قصصها… ص 14 ) من خلال حكاياتها المثيرة تصنع الحاجة عذرا فرحا مليئا بالدهشة والتشويق والمتعة وممزوجا بالمفاجئات والغرائب حيث تتشابك هذه الحكايات مشكلة بوتقة مميّزة من العبير الذي يتدفق بسلاسة ووضوح أثناء ممارسة الخطوات الفريدة من طقوس الشاي.
وتواصل الكاتبة ربيعة جلطي روايتها العابقة بطقوس الشاي ونكهته المميزة فتصف صراعا محتدما بين المواطن المسحوق والمسؤول المتعجرف وتتحدث عن فساد السياسيين واستخدامهم للمال والدعاية من أجل الحصول على الأصوات الانتخابية والوصول لكرسي السلطة ثم نسيان هؤلاء البسطاء (عباس من هؤلاء وجوه الحارة مهرب سابق أفصح عن رغبته للترشح في البرلمان القادم فأطلق لحية شعثاء منذ مدة قبل أن يبدأ حملته الانتخابية في المسجد .. ص 54 ) وتسترسل الروائية ربيعة جلطي في الحديث عن مظاهر الفساد الحكومي وتصوير ظاهرة استغلال السلطة والكسب غير المشروع كما يحدث في عملية ترميم حمام عام تاريخي قديم ( … حمام لاباستي يستقبل النساء في النهار والرجال في الليل سمعت أن احد المسؤولين نصب حديثا امر بترميمه انه لا يحتاج الى ترميم على الاطلاق يحتاج فقط الى صيانة لكن الترميم اصبح المشروع الواضح الوحيد الذي يدخل به المسؤول لمسؤوليته الجديدة ثم يخرج منها بعد إقامة طويلة دون أن ينتهي مشروع الترميم ويتم تجديد طلب الميزانية الإضافية له من الميزانية العامة للدولة .. ص 56 ) فالترميم يعني موازنة إضافية توضع في جيب المسؤول مع ما يصاحب هذا المشروع من بيع للاحجار القديمة والرسومات التاريخية التي يتم استبدالها مما يؤدي لانتفاخ جيوب المسؤلين وثرائهم الفاحش على حساب مقدرات الوطن والمواطن ، ويظهر فساد السلطة من خلال الطريقة المضحكة لعملية تدوير وتبادل الوزارات والمناصب بين المسؤولين ( … وزير التربية والتعليم الذي عين في مكان مكان وزير الزراعة الذي عين بدوره على راس وزارة الاعلام بعد ان عاد وزير الاعلام الى وزارة العدل التي ظلّ على رأسها طويلا دون ان تنجب هذه البلاد واحدا مثله … ص 66 ) وتنجح الروائية في تصوير حجم الظلم الذي تعانيه الطبقة المسحوقة من المواطنين وذلك عبر الألم والغضب الذي يبثه حارس نادي الصنوبر رضوان لزميله الحارس مسعود ( لو أنني فقط أستطيع قلب كل شيء .. هؤلاء السفلة، أن اطلق عليهم قنبلة ذرية ، مللت من الكذب والنفاق ص 75 ) وبكل دقة واتقان تستخدم الكاتبة شخصية رضوان لاظهار مقدار الكذب والرياء الذي يمارسه المسؤلون الذين يهمهم مصالحهم الشخصية ويتجاهلون عن تعمد وقصد معاناة معظم أفراد الشعب ، وما بين حياة الرفاهية في نادي الصنوبر حيث يعيش المسؤولون والسياسيون بفسادهم وبين حياة الصحراء بوضوحها وبساطتها وبراءتها مسافة كبيرة تزداد اتساعا بينما تتواصل على صفحات الرواية الممتعة جلسات طقوس الشاي .
ومن ضمن الحكايات التي تبرع الحاجة عذرا في سردها تظهر حكايات الحب والغرام حيث تفوح رائحة العلاقات العاطفية بين الرجل والمرأة ممزوجة برائحة الشاي ونكهته المميزة فترتسم على صفحات الرواية لوحات فنية متداخلة لمشاهد الزواج والطلاق (… نعم. حفلة طلاقي لم تشهد مثلها سماء الصحراء، كان الغناء يصل عنان السماء المفتوحة على الغيب والغياب، والرقص في اوج جنونه ورائحة البخور والحناء تتسرب إلى أبعد خلية في أجسام الحاضرين. ص 16 ) ومن خلال هذا الحديث تسترسل الحاجة عذرا في وصف مكونات الحفل الغريب والدعوات التي وجهت للجميع بلا استثناء وحالات الفرح المرافقة للغناء القادم من أعماق وتاريخ الصحراء الضارب في القدم وهي لا تخجل من التعبير عن قدرتها على اصطياد الرجال وايقاعهم في حبائلها وهنا تظهر الكاتبة ربيعة جلطي قوة شخصية الحاجة عذرا في مواجهة محاولة الرجال فرض سيطرتهم وكأننا امام صراع بين مجتمعين ذكوري ( أبوي ) يسيطر فيه الذكر على مقدرات الأنثى وينجح في إضعاف شخصيتها ومجتمع ( أمومي ) تفرض فيه الانثى سيطرتها وقوتها وتواجه محالات القمع والتسلط بمزيد من التحدي المسلح بتقاليد الصحراء وحكاياتها وأساطيرها ( نحن نساء الطوارق بنات تينهينان وحفيداتها نشعر ان أرواح الملكات تسكن فينا وتروي عروقنا بالقوة والتحدي وبالجمال والجلال والسمو والانفة ص 110 ) هكذا هي المرأة في مجتمع الصحراء ليست محتقرة وليست مجرد أداة للمتعة كما يتم التعامل معها في المدينة بل يتم تقييم الرجل ومكانته حسب معاملته للمرأة ( ان الرجل الطارقي كلما ازداد احتراما وتقديرا للمرأة علا شأنه أكثر بين قومه ومن يبدي منهم فظاظة تجاهها أو من يده عليها مهددا او ضاربا فكأنه حكم على نفسه بأقسى عقاب ولا يلومن الا نفسه لأنه سيصبح مضحكة القوم ، يتبرأ الجميع منه ويتجنبون حتى السلام عليه ويديرون وجوههم عنه حيثما مر ومأن به جذام ، فينبذ ويطرد ، وحتى أصدقائه ومعارفه وأهله يتهربون من الالتقاء به … ص 111 ) وتخلص الحاجة عذرا لمكانة المرأة الحقيقة في مجتمع الصحراء قائلة ( انها الوتد الأساسي في خيمة الطوارق ، هي ملقنة الكلام وهي الشاعرة وهي العازفة وهي المغنية وهي الحكيمة التي ينصت لصوتها ولأشعارها الحاملة للفلسفة والتاريخ … ص 113 ) وفي مقابل ذلك تتشكل صورة الرجل في الصحراء من خلال أخلاقه وتواضعه وكرمه وقوته ( … الرجل الأزرق كل رجولته وقوته وجماله وفتنته تنبع مما يملكه في ذاته من كرمه من مروءته ، من ظله المنسحب بسخاء على الرمل تحت الشموس المتلاحقة ، من شجاعته وإقدامه ، ومن أخلاقه العالية التي تلقنها له امه ، ومن فروسيته وبلائه الحسن في كل ما يواجه من أخطار ومن معرفته بأسرار الصحراء … ص 114 )
وتأخذ الروائية ربيعة جلطي دور الحاجة عذرا حينما تروي حكاية العاشق مسعود الذي يتحدث عن آلامه وعن حبه الغريب وهو العاطل على العمل الذي لم يستطع ان يحقق حلمه وان يصبح قاضيا وبدلا من ذلك درس الأدب العربي القديم ولكنه وبعد طول انتظار أصبح يعمل لدى المرأة القادمة من الصحراء حارسا على بيتها الكائن في نادي الصنوبر حيث وقع في غرامها وأيّ حب هذا الذي يعاني منه العاشق الولهان ( مسعود ) وهو التائه في بحر قصائد الغرام الجاهلية حيث تُمثّل الحاجة عذرا بتفاصيلها الممتلئة نسخة عن أحلام الشعراء ( منذ نعومة أظفاري فتنت بحكاية دارة جلجل بشيطنة ذاك الأمير الضال امرؤ القيس ، كيف خطرت ببال امرئ القيس تلك الفكرة الجهنمية والذكية فكرة خطف ثياب المستحمات بالنهر والاستيلاء عليها ودسها بعيدا ، ثم لا يقبل شيئا لتسليمها سوى أن يظهرن عاريات أمامه متجهات لأخذها ثم ارتدائها ليتسنى له رؤيتهن مقبلات ومدبرات المخبول الرائع … ص 47) مسعود يمارس عشقه بطريقة غريبة فبعد أن يصف لنا كيف تأثّر بعوامل المراهقة المختلفة يتحدث لنا عن نسائه المحبوبات فيقول (ثم انني لست مجبرا أن أخبر أحدا بسري أنا رجل أحب السمينات اللواتي يشبهن محبوبتي الطارقية الحاجة عذرا ومحبوبات امرؤ القيس اللواتي يشبهن الابقار البيضاء المرقطة أو الملونة الحوامل منها خاصة ص 53) وعندما نتابع قراءة صفحات الرواية تظهر لنا مساحات شاسعة من العلاقات الاجتماعية والحب والزواج والتي تحتل وقتا زمنيا كبيرا من أوقات طقوس الشاي
وفي خاتمة الرواية لا بد لنا أن نتساءل أين ينتهي حنين الحاجة عذرا وعشقها للصحراء؟ وكيف ترسم الروائية ربيعة جلطي نهاية حكايتها العابقة بطقوس الشاي وتفاصيله الدقيقة؟ ترى هل عادت الحاجة عذرا الى الصحراء ام استطاعت المدينة بكل مظاهرها واموالها ان تسيطر عليها؟ الم يتمكن هذا الثراء الفاحش وجمال نادي الصنوبر ان يزيل أفكار واساطير وعادات الصحراء من التاريخ المتجذر في جوف المرأة الطارقية … ( … يا الله يا بنات تصبحوا على خير ) هكذا أنهت الحاجة عذرا حكاية طقوس الشاي بعد ان جمعت كؤوسها وآلة الإمزاد الموسيقية ولم تتكمن من إخفاء معاناتها والمها وحنينها للصحراء والذي ظهر في صعوبة وقوفها حيث قالت مخاطبة الفتيات ( غدا سأرحل الى الصحراء يا بنات ) هكذا تخيلت الفتيات نهاية طقس الشاي الأخير أو هكذا استطاعت الجذور القبلية ان تعيد الفتاة الطارقية لمكانها الأول وهكذا انتهى فصل الحنين الذي لم تستطع كل مغريات المدينة ان تنهيه ، فهناك في عمق الصحراء يمكن للمرأة أن تحقق ذاتها وأن تكون لها حرية القيادة والرأي حيث لا تستطيع قيود المدينة بكل مغرياتها أن تحدّ من هواء الحرية وضياء شمس الصحراء الساطع انها العودة للجوهر بعيدا عن تشوّه العواصم التي تمتلأ بجو الغربة والضياع والتشتت ( ما هذا الذي يعيشه الناس هنا .. يسمون هذا الكائن الحجري الميت مدينة انها مقبرة متحركة يتململ فيها الناس وكأنهم موتى بلا روح ولا فرح ولا لحظات سرور الفقراء يبحثون عن لقمة الخبز لهم ولأولادهم فيصبرون من أجل ذلك على القهر والعبودية وأشكال التحقير بينما يتسابق من هم في السلطة ومن هم في بلاطها والاقربون والمقربون منهم على جمع المال. المزيد من المال… المال ثم المال ثم المال … لا تهم الطريقة ولا يهم الوقت لعلها متعتهم الوحيدة والمشتركة بينهم ص 103) لقد استطاعت الروائية ربيعة جلطي في رواية نادي الصنوبر أن تجعل من التفاصيل الصغيرة المتشابكة ميدانا متخما بالأفكار التي سوف تترك لدى ذاكرة القارئ أثرا مفعما بالأسماء والشخوص والأحداث والحكايات التي سوف تبقى مرتبطة بخطوات وطريقة تحضير وإعداد طقوس الشاي.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
27-08-2022 02:32 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |