حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الإثنين ,23 ديسمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 4124

اليوم على تقويم الفراق يتزامن مع الذكرى العاشرة لرحيل أمي ولأنها العاشرة فيتوجب الرثاء كما يجب

اليوم على تقويم الفراق يتزامن مع الذكرى العاشرة لرحيل أمي ولأنها العاشرة فيتوجب الرثاء كما يجب

اليوم على تقويم الفراق يتزامن مع الذكرى العاشرة لرحيل أمي ولأنها العاشرة فيتوجب الرثاء كما يجب

30-08-2022 04:33 PM

تعديل حجم الخط:

بقلم : فداء المرايات
من محبرة القوة ، وعلى أوراق الحنين ، وبريشة الامتنان والبنوة الصالحة ، أكتب إليك ِ هذه المرة بعد عشر سنوات مضت على الغياب ، لكنني بادئة أخبرك يا أمي بأنني أخط بطريقة مختلفة عن سابقاتها التسع ، فهذه العاشرة التي تأتى معها النضج واليقين .

يتوجب علي قبل أي شيء أن أجدد تأكيدي بأنك ِ لم تكوني يوما أما ً عادية ، ولا أنثى سطحية ، كما وأني كنتُ وما زلت مشروعك الانساني الجميل ، والصورة الحية لفلسفة الأخلاق التي جُبلت ِ عليها وجبلتني أيضا ، كل طفل وابن يرى أمه أعظم النساء وأجملهن وأشدهن عطفا وكرما ، لكنني أكتب واصفة الانسانة أكثر من الأم ، وبلسان ناقل للحقيقة وليس عاطفة الابنة ، هذه السيدة كانت موفورة الذكاء ، وشديدة الأناقة ، شكلا وروحا وقولا ، رقيقة المظهر ، هادئة الطباع ، متسامحة بصورة عجيبة ، مسالمة للحد الذي يستفزني أحيانا ، فأنا على عكسها - في هذه الجزئية - فلست أهادن ولا استسلم ولست صكاكة أو صيرفية لصكوك الغفران إلا إذا استطعت وفقا للزمان والمكان والأشخاص وبعد تمحيص دقيق .

لطالما كانت والدتي تضفي على المكان الذي تدخل إليه الحياة ، وتثير انتباه الجالسين في أية جلسة تكون فيها حاضرة ً، فقد امتلكت أمي لغة جزلة ومخارج حروف سليمة جدا ، فهي أستاذة رفيعة بتعليم عال ٍ في اللغة العربية ، وذات ثقافة عالية ومرموقة ترهق السامعين ، وتثير فضول الباحثين عن المعلومة ، وصاحبة ذاكرة صعبة الاحتواء ، أو حتى المنافسة ، في الأدب والعلم والتاريخ والسياسة ، وذات هوايات مميزة ، وهي السبب الأول والوحيد وصاحبة الفضل الكبير بعد الله في كل ما أنا عليه اليوم ..

من فضائل أمي أنني حين كنت في سن الخامسة استطعت القراءة والكتابة ، وتخطيت حواجز التعرف على الحروف أو حتى مجرد القدرة على نسخها كسائر الأطفال ، فقد كنت أقرأ وأكتب كطفل متفوق في عمر الثامنة أو التاسعة ، حيث كانت أمي قد جلبت لي كل ما يحلم به الأطفال ، من كتب وقصص وألعاب ومجلات فقد عشت طفولتي المترفة ، وبأسس منهجية أيضا ، فلم أكن طفلة عشوائية ، أو تلك الوحيدة الأنانية ، بل علمتني أيضا الأخلاق وفن العطاء ، أذكر حينما كنت في الصف الأول أنها حثتني بشدة في نهاية العام الدراسي على تقديم بعض ٍ من أجمل ألعابي وقصصي لمكتبة الصف ، وأهديها لمعلمتي أمام زملائي ، وفي الصف الثالث جعلتني أتخلى عن البيانو الخاص بي والذي أهدتنيه ذات مرة في يوم مولدي وأمسى عندي المفضل ، وكنت رافضة الفكرة تماما ، وأخبرتها بأنه شيء أملكه وأعزف عليه وليس عندي رغبة في أن أعطيه لأحد ، وبعد مباحثاتها المطولة مع طفولتي العنيدة ؛ أقنعتني بلطف ، وكنت قد سمعت جدتي يومها تسألها بما معناه : لماذا تجبرينها على التخلي عن ألعابها الغالية ثمنا وقيمة ، فكانت تجيبها : أن الطفل الوحيد والمدلل يتنامى في داخله الأنانية ، لذلك عليها أن تتعلم العطاء وأن لا تأخذ دوما دون أن تعطي ، وأن تستشعر النعم ، ولأنها ستعيش وحدها في هذا الزمن عليها أن تدرك قيمة الاشياء وحقيقة فنائها قبل فقدانها ، كي لا تنكسر يوما ما وتقع في فخ التعلق ، فأنا لست دائمة لها يا والدتي ...!!

بعد سنوات طويلة ، عدت بالذاكرة لتلك العبارات ، وصار عندي تفسير واقعي لها ، بأنني لم أكن يوما أنانية ؛ بل وأصبح عندي من الاستيعاب ما يتواءم معها ، فقد اجتهدت طوال سنوات على دعم الكثيرين ، وكنت أهبّ لمد يد العون لكل من يلجأ إلي ، وإن كنت في أوج حزني أو انشغالي في الكثير من المرات ، ولست أنكر أنني قدمت من المعروف - أطنانا لو كان يوزن - لأناس لا تستحق ، ولنفوس متآكلة لا تعرف قيمة أو معنى المعروف ، ورغم هذا وذاك فإن هذا القدر الكبير من العطاء وتمسكي المستمر بهذا المبدأ يعود فضله لأمي ، التي قلمت شجيرات الأنا في داخلي منذ الصغر ، وهذبت نزعات النفس البشرية التي عندي كانسان ، كما علمتني أيضا أن أنظر للناس نظرة سوية ، فلا أتلون ولا أدعي ولا أتكبر ولا أختال ولا أتجبر ، ولا أركض خلف الخلائق وأنسى الخالق ، فقد علمتني أن أثق بقدراتي وأحب نفسي بأبجدية الرضا وشريطة عدم الدخول في بوتقة الأنانية ، وأن أحب الحب لذاته ، وأدرك قيمة الفضائل والقيم في كل شيء .

كان حديث أمي في منزلنا معظم الوقت إن لم يكن كله بالفصحى ، وقليل جدا يكون بالدارجة ، أتبادل معها أطراف الحديث ، أو أكتب وأريها ما كتبت ، وتصوب لي كل شيء ، فقد كانت أيضا شاعرة مرهفة الإحساس ، تحفظ الكثير الكثير ، وتكتب أيضا قصائدا دافئة ، مازلت أحتفظ بها في مكتبتها..

إنني مهما كتبت يا أمي ، ستظلين الحاضر الغائب ، الانسانة الملهمة والمعلمة والصديقة والسيدة الأنيقة جدا منطقا ومنطوقا ، مظهرا ومخبرا ، والأم العظيمة التي كان الجميع بلا استثناء يحسدني عليها ..

عشر سنوات انقضت وأنا أخبرك اليوم غاليتي بأنني أصبحت أقوى بكثير مما كنت ِ تعرفين وتظنين ، وتلك الإرادة التي كنت ِ تلحظينها بوحيدتك ِ التي لم تكن قد خاضت مضامير الحياة بعد ، أمست اليوم أشد وأعنف آلاف المرات عما كانت عليه ، وصرت يا أمي أرفض الأشياء الفظيعة أكثر في الحياة والعمل وأينما ذهبت ، أتمسك بالعدالة وأعيش في عالمي ووحدتي التي فضلتها عن الانغماس في واقع متميع ، ولزج يلتصق بالنفاق ، ويحاكي المصالح ، فكنت وما زلتُ كما عهدتني انتقائية ، لا أرحب بالتكرار ولا يروق لي العبث ، مميزة في كل شيء امتدادا لتميزك ِ ، وبعيدة عن سباقات المقارنة ؛ وستظلين حبيبتي رفيقة كل مراحلي ، وأما ذاكرتي الملأى بحكايانا وكتبنا وقصصنا ومجلاتنا ورحلاتنا وقصائدنا وهواياتنا وتفاصيلنا المميزة هي مخزوني الجميل حتى آخر هذا العمر ..

رحمك الله والدتي الحبيبة وإلى جنات الخلد يا رب العالمين

وحيدتك فداء

فداء المرايات








طباعة
  • المشاهدات: 4124
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
30-08-2022 04:33 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
لا يمكنك التصويت او مشاهدة النتائج

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم