31-08-2022 08:55 AM
سرايا - أ.د. أحمد الخطيب
لقد سبق لمؤلف الكتاب أن قدّم دراسة دقيقة طريفة عن (القدس والقصيدة العمودية ) وقد صدرت عن دار الشروق عام 2021م، نقّب فيها بصبر طويل، كما يفعل الآثاريون عن ورود أسماء القدس المتعارف عليها والممكنة في شعرنا العربي القديم، وخلص فيها إلى نتائج طيبة تعدّ إضافة نوعية في بابها.
ولعل هذا ما حفزه إلى ولوج تجربة الشاعر سعد الدين شاهين من هذا الباب الضيق الذي ألح عليه، ووسعه، فغدا مدخلاً مدهشاً لتأمل تجربة الشاعر على نحو شمولي، وغدت القدس فيها محور اهتمامه، وغدت المدن والقرى الفلسطينية نجوماً تدور وتتلألأ في كوكبها المقدسي حتى مطلة الشواهين في العدسية غربي عمان أصبحت موظفة لخدمة تجربة المقاومة، فمنها يطلّ على فلسطين، ومنها يبحث عن مآذن الأقصى، وكأني به ذلك الصعلوك النبيل المقيم في قنن جبال الحجاز ونجد الذي يقلب الآفاق، ويرقب فجاج الطرق بحثاً عن قافلة لغني بخيل، يعدل بها ما اضطرب من موازين الحياة العربية.فهاهو ذا شاهين يجعل من مطلته قنة يجدد منها العهد، كلما لاحت له مآذن الأقصى ومرتفعات فلسطين الغربية، وهي عنده نافذة المنفيّ التي يطلّ منها على القدس الوطن، فكل شيء في تجربته تلّون بالقدس الشريف في تجربة مقاومة على شتى الأصعدة، ولم يكد يخرج ديوان واحد له عن هذا القصد والنهج في إلحاح مدهش.
وكان الدكتور المعيني موفقا في اختيار عنوان دراسته: (القدس ترسم صورتها)، وكأن الشاعر شاهين هو المعنيً بهذه القوة الشعرية التي تهب عليه مباركة من القدس، ليصرفها أنغاماً وصوراً، ويصوغها إيقاعات مدهشة، فالقدس هي الملهمة الحقيقية، تقترح عليه ملامح المكان والزمان والحضارة، وهي التي تبوح له بأسرارها من وجع الاحتلال، ومن رغبة في المقاومة والحرية، ومن دعوة للتصدّي لهذا الظرف الاستثنائي، والاحتلال البغيض.
هكذا انعقدت بين الشاعر والقدس والمقدسيين تلك العلاقة الجدلية المدهشة والرهيفة والمتينة، فجاءت ألفاظه لتشي بثنائية الانشغال بين دلالة المقاومة والرفض، وبين دلالة الألم والحسرة..، في سلاسة ووضوح يفرضه الموقف المقاوم، وفي عمق محمود لا يحول دون وصول رسالته إلى تلك القاعدة العريضة من جماهير المتلقين.
ولم يجد المعيني بداً من اللجوء إلى الاختيار والانتقاء النصّي لأنه يتعامل مع مجمل تجربة الشاعر تقريباً.
وقد اختار عشرة دواوين، وهذا الاختيار له صعوباته ومزالقه فمن الممكن الوقوف على جملة الهموم والقضايا المقدسية من إصرار على حق العودة، واتخاذ للمقاومة سبيلا لذلك، والتشبث بالأرض مهما كان الثمن، لا فرق بين مكان وآخر في فلسطين، ولا فرق بين فرد وآخر على تراب الوطن، فكلهم سواء، وكلهم القدس العاصمة الأبدية لفلسطين. أما موقف الأقطار العربية الأخرى منها، فهو موقف لا يمكن الركون إليه على نحو ثابت، وتبقى القدس قابضة على جمر الصمود، والتصدي، والمقاومة.
لكن من الصعوبة أن نعمم ما تنتهي إليه دراسة تلك النماذج المختارة، ولا سيما أنها نماذج عالية الأداء، تحول دون الوقوف على خصوصية هذه التجربة المقاومة، كما أن الانتقاء في مثل هذه الحالة يحول دون الوقوف على تطور تجربه الشاعر بين ديوان وآخر.
وكنت أود من الدكتور المعيني أن يتحدث بشكل أوضح عن بعض المناهج السياقية التي أسعفته في دراسته، واعتمد عليها،و ألمح إليها في إضاءة النصوص وفهمها، فمن الواضح أنه قد أفاد من معرفته الوثيقة بالشاعر شاهين نشأةً وتكويناً، كما أفاد من المناهج الأخرى في قراءة تلك النماذج، والوقوف على تجليات الصورة فيها، وملاحظة تفاصيلها لفظاً ودلالة وإيقاعاً وتصويراً. ولعل أبرز تجليات الصورة كما لاحظ الباحث هو الاتكاء على تلك الصورة الحسية الممتدة الحافلة بالحركة، واللون، والصوت، كما لاحظ في كل دواوينه، أنّ شمس القدس لا تغيب،ونجومها لا تنام،وأقمارها لا تغادرها، فهي ليست كسائر المدن، فهي مدينة بحجم الوطن، «تسكن منه الروح، والقلب، والوجدان، ويراها أمامه في أقواله وأعماله، وفي شؤون حياته اليومية، فهو يحملها معه في حله وترحاله، ويبحث عنها في كل مكان وزمان، ولم لا؟ وهي البوصلة، والفكرة، والاتجاه، والمواجهة والهوى..»
وشاهين في كل ما كتب، وعلى الرغم من كل الظروف، والتعثر، والارتطام، إلا أنّه لا ينسى تلك الصورة القارة في وجدانه ووجدان كل فلسطيني:
«كانت خضراء بلون الكرمة/ كان الشاطئ قامتها/ تغسل أرجلها في غزة/ وتغازل شمس الأغوار / وأقمار جنين/ تتوضأ من عين في حيفا/ وتصلي بصبايا الجنة في القدس/ كحور عين».
وهو على ثقة من جدوى المقاومة، والثورة، والتصدّي:
«الأرض باقية/ وميشا لم يزل في البال أغنية/ ونحن إلى المنابت/ بالأغاني خلف ميشا/ والحمائم راجعون».
فهاجس الصورة حاضر عنده بقوة الحق والنضال في قصائده المقدسية، وهذا أبرز ملمح في الأدب المقاوم، وله من التاريخ أكبر العبر وأدلها، ومن شاء فليقرأ التاريخ، ويبحث عن تلك الصفحات المضيئة فيه، والملهمة لأبنائه.
وهكذا قدّم الدكتور المعيني قراءة عميقة لتجربة خصبة هي حصاد ثلاثة عقود تقريباًمن العطاء للشاعر سعد الدين شاهين، وهي تجربة مدججة بالأمل، ومسكونة بالتناصات التاريخية والدينية، تحمل بصمات روحه، وفكره، وصلته بالتراث الشعري قديمه وحديثه، وهي تنحاز في مجملها إلى تجربة الشعر المقاوم موقفاً، ورؤية، وتشكيلاً.