04-09-2022 09:21 AM
بقلم : هاني الفلاحات
بعد مرور أكثر من 200 عام على إعادة إكتشاف مدينة البترا (الرقيم) وأكثر من 100 عام على بدء الاهتمام بها من قبل الباحثين والمؤرخين وحتى الزوار من كل أصقاع الدنيا، إلا أننا لم نستطع حتى اليوم التمييز بين ضواحي هذه المدينة العريقة، ورغم الدراسات العديدة والمحاولات الجادة لتفسير الظواهر الآثارية المكتشفة، إلا أن الباحثين يقومون بتقديم إسقاطات على الأمكنة في محاولاتهم لتقديم أي جديد بعد أن مَلّوا ومَلَلْنا من تكرار نفس الكلام بعد حوالي قرن من الزمان ونحن ندرس آثار تلك الأمة.
إن المتفحص في دراسة المدن العربية وغيرها من المدن سواء القديمة أو الحديثة، يكتشف دون عناء أن المدن في الغالب الأعَمّ تقسم الى مناطق أو ضواحي بحسب وظيفتها، ولم تكن البترا في إعتقادي خارجة عن هذا السياق، بل إن تقسيماتها واضحة، ولقد أثبتت المسوحات الآثارية والحفريات العلمية هذه الحقيقة، ورغم أن منطقة الحفرية أو المسح الآثاري تُغطي غالباً منطقة محدودة جداً، ومع ذلك تكون النتائج مهمة بالتأكيد، ولكنها تبقى جزئيات تحتاج الى أن تتجمع في سياق واحد لنتعرف على وظيفة الأحياء والضواحي بشكل عام، وفي حدود معرفتي قلائل من الباحثين أفردوا دراسات لإستخدامات أماكن محددة، منها الدراسة المشتركة التي قام بها د. محمد الفرجات وآخرون بعنوان ("Documentation, Analysis and Reconstruction of the Paleo-land use of Wadi Musa with Special Reference to the Nabataean Period: A Geomatic Study based on Archaeological Evidence)، وأذكر أنني سمعت محاضرة للدكتور Stephan Schmidt عن أماكن إقامة ملوك الأنباط أو لنقل الضواحي الملكية، ورغم أن الدراسة خلت من أية شواهد وأدلة دامغه، فتظل محاولة أراها جريئة لإثارة التساؤلات التي قد تثير الباحثين لإقتحام مجالات البحث المعمق للإجابة على الكثير من التساؤلات التي ما زالت تُحَيّرنا، من هنا فإنني أرى أن عاصمة العرب الأنباط وفي حدود المعروف منها حتى اليوم تُقسم الى ثلاث مناطق أو ضواحي أو أحياء بسبب وظيفتها، ويمكن أن نصنفها الى الآتي:
1- الرقيم أو ما يُعرف اليوم بالبترا: والرقيم هو الاسم الذي أطلقة العرب الأنباط على عاصمة ملكهم، وهو إسم عربي ورد مراراً في نقوش الأنباط للاشارة الى عاصمتهم، ولو عدنا الى معاجم اللغة العربية لوجدنا عشرات الدلالات لهذه الكلمة التي يمكن إسقاطها على طبيعة المكان وصفاته الطبيعية والفنية، ورغم أن الدلالة الغالبة في العربية لكلمة الرقيم هي الاشارة الى أصحاب الكهف والرقيم التي وردت في القرآن الكريم عن قصة أصحاب الكهف، قال تعالى: "أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا". وكذلك الجدل القائم بين علماء الدين والآثار عن المكان الحقيقي لذلك الكهف، إلا أن مدلول الكلمة يمكن بالحد الأدنى إسقاط "معناها ودلالتها" على البترا، فالكهف الذي أشار له القرآن هو قبر لمجموعة من الأشخاص، وهو من آيات الله الى الناس حتى يوم الدين، ولكننا بالحد الأدنى فهمنا أن مدلول كلمة "الرقيم" بأنها تدل على مقبرة لأصحاب الكهف، هذا ناهيك عن الاشارة الواضحة لكلمة "كهف"، والتي تنسجم مع البترا ذات الكهوف المحفورة في الصخر، وأرجو أن يفهم القاريء الكريم أنني لا أدعي أن كهف أصحاب الكهف يقع في البترا أبداً، ولكن إستخدام الكلمة التي لها مدلول هو ما استفزني، رغم أن المصادر التاريخية اختلفت في زمن أصحاب الكهف، فبعضها تشير الى أنهم قبل ميلاد السيد المسيح وبعد صحوتهم ظهروا في زمن السيد المسيح، وبعضها يؤرخ لهم في فترات لاحقة. ولكن المؤكد أن التوراه لم تذكرهم.
المهم إن الحقيقة التاريخية لمعالم مدينة البترا تؤكد أنها مقابر، فمن بداية السيق من منطقة المقابر البرجية، مروراً بالخزنه، والمقابر الملكية ومقابر العامة، ومنطقتي المعيصرة وفرسه، وانتهاءً بالدير هي كلها مقابر تمثل فترات حكم العرب الأنباط خلال عمر دولتهم الذي استمر لأكثر من 400 عام.
قد يقول قائل أن وسط البترا المبني بالحجارة تمثل أيضاً منشئات كالمعابد والكنائس والفلل وربما المساكن أيضاً، فيمكن القول أن هذه المعالم التي تم كشفها حتى الآن هي في الغالب تحمل ذات الطابع الوظيفي المتعلق بالموت والاحتفالات الجنائزية، وربما مساكن أولئك المشتغلين بإعداد الموتى وتهيئتهم للدفن، وربما كانت وظيفة الفلل لذات الصفة ولكن لعلية القوم، رغم أننا لم نتعرف بعد على فلل في داخل البترا إلا "فيلا الزنطور"، بينما المساكن العادية ربما كانت أكثر بحكم نسبة العوام الى نسبة المنتمين الى الطبقة العليا في المجتمع النبطي.
يُضاف الى ما تقدم الاستخدام الاستثنائي للمدينة في اوقات الحرب، وفي حالات الهجوم عليها حيث تفيد الدراسات الى لجوء الأنباط الى المدينة المحصنة لحماية أنفسهم وممتلكاتهم النفيسة، وهذا يعني أن داخل المدينة لا بُدّ وأن كان مؤهلاً لهذه الوظيفة، ففي حالات الحرب يكون الرجال والجنود مشغولون بالدفاع عن مدينتهم، بينما يحتمي الاطفال والكبار والنساء داخل المدينة بشكل مؤقت، وهذا يعني أن المدينة ليس مطلوب منها استيعاب كل سكان العاصمة والتي كانت تضم ما لا يقل عن ثلاثين ألفاً بحسب تقديرات المختصين، ولكن استخدام المقابر والمباني العامة فيها ربما كان مقبولاً في الحالات الاستثنائية للحماية من الغزاة، ولذلك يمكن تفسير المعلومات التي انتهى اليها المختصون من أن الأنباط كانوا يسكنون في المقابر، ربما ليس دقيقاً في الظروف الطبيعية، ولكنه ربما كان حقيقياً في الظروف الاستثنائية عندما تُهَاجَمْ عاصمتهم جايه (وادي موسى) من قبل الغزاة.
2- جايه (جايا) أو ما يعرف اليوم بوادي موسى: بداية لا أعتقد أن اسم "إلجي" المتداول ينطبق على وادي موسى المعروفة اليوم، فدلالات الاسم -إن كانت من اللجوء- ربما تنسجم مع طبيعة البترا الصخرية المحمية طبيعياً، وربما كانت "جايه/ جايا" بمعنى الوادي المقدس أكثر إنسجاماً مع المكان، وتعتبر وظيفة جاية لغايات السكن والحياة، والاسواق والمعابد والكنائس في فترات لاحقة، وكذلك الانتاج الزراعي فيها وفي محيطها من مناطق الشراه، ولقد أثبتت الحفريات والمسوحات الآثارية ومشاهدات الناس قديماً إنتشار الآثار في معظم اراضي وادي موسى، فرُصِدَت بالبحث العلمي الفلل والمساكن العادية والحقول الزراعية والسدود المائية وشبكات قنوات الماء، والحمامات والاسوار والمصاطب الزراعية، فوظيفة المنطقة السكنية تتطلب توفير الغذاء والماء والأمان لسكانها، لذلك صُممت لتحقق هذه الغايات.
هذا بالاضافة الى المقابر الفردية والجماعية، والاسواق والشوارع المبلطة والجدران الاستنادية وغيرها الكثير من المعالم والبقايا التي تدلل على حياة مجتمع متطور استغل امكانات منطقته الطبيعية، واستقر لدرجة مَكّنته من تجسيد كل معاني الاستقرار بالبناء والتجديد واستخدام أرقى فنون العمارة التي تدلل على الترف الذي يأتي بعد الاستقرار السياسي الكامل والاستقرار الاجتماعي وترَسُخ مفهوم الأمن لديه.
ورغم أن النشاطات الآثارية كانت محدودة في وادي موسى بالقياس مع البترا، إلا أن المسح الآثاري الذي رافق مشروع الصرف الصحي في نهاية التسعينات من القرن الماضي تحت إشراف د. خيرية عمرو والذي رافق عمليات حفر مسارات خطوط الصرف الصحي، ففي هذا المشروع تم رصد وتوثيق حوالي 300 موقع تدلل على أهمية المكان؛ كالفلل والحمامات والارضيات الفسيفسائية، والقنوات التي ترتقي الى ارقى معايير الانشاء من الناحيتين الفنية والهندسية، بالاضافة الى الاسوار الضخمة، وهذا يعكس أهمية المكان ووظيفته التاريخية كما أشرنا أعلاه.
كما أن تتابع الاستيطان في منطقة وادي موسى في كل الفترات اللاحقة لفترة الانباط يدل على أن المكان قد تم تأهيله لغايات السكن والزراعة والصناعة وغيرها من النشاطات الانسانية التي تعني الحياة والعمران والاستقرار .
وللحقيقة فلقد تعثرت النشاطات البحثية الآثارية في وادي موسى بسبب المد العمراني واستمرار استيطان المنطقة، وبسبب مشاريع البنية التحتية من طرق وغيرها، كما أن استخدام الآليات لتأهيل المناطق المنحدرة لغايات البناء وفتح الطرق قد غَيّر طبيعة المكان وخلق ما يمكن أن أسَمّيه legal disturbance، أو فوضى قانونية تم بسببها ضياع الكثير من المعالم المهمة التي ربما غيّرت الكثير من المعلومات التي نعرفها عن تلك الأمة وعن هويتها الثقافية وشخصيتها الحضارية.
وهنا ارجو التأكيد على أنه لا يمكن إتهام شخص أو مسؤول بعينه عن ذلك، ولكن إن كان هنالك خطأ، فهو مسؤولية الجميع ومنذ تأسيس الدولة بسبب الجهل وغياب التخطيط وإنعدام الرؤيه الواضحة للمستقبل، بل إن المشكلة هو استمرار الأخطاء الى ما لا نهاية.
وربما يقول قائل ماذا يمكننا أن نفعل اليوم في ظل ما توصلنا اليه حتى الآن، وهنا يجب أن نسأل أنفسنا سؤالاً مهما؛ هل نريد البترا للابد، أم نريدها للجميع؟! فإن كنّا نريدها للابد فعلينا الكثير مما يمكن أن نفعله الآن، وفي هذه الحالة فالمطلوب كبير جداً ومكلف جداً، أما إن كنا نريدها للجميع فيمكن أن تستمر السياسة الحالية التي تستهلك الكثير من قيم البترا.
3- بيضه أو ما يعرف اليوم بالبترا الصغيره: تعتبر البيضه أهم الضواحي الزراعية المحيطة بالبترا، ورغم أن طبيعتها الصخرية تشابه طبيعة البترا، إلا أن المعالم الصخرية في البيضة لا تذكر بالمقارنة بالبترا، كما أن جبالها تخلو من واجهات المقابر كما هو الحال في البترا، باستثناء بعض الحالات الفردية التي ترتبط بمرافقي القوافل الذين حضرتهم الوفاة في المنطقة، ودفنوا بتقاليدهم الاصلية، وأُشيرَ الى قبورهم بالمسلات المحفورة في الصخر (نفش)، وفي اعتقادي أن ذلك يرجع الى طبيعة وظيفة المكان التاريخية بحسب الرؤية النبطية، فلم تكن البيضة عبر تاريخ الأنباط مقبرة العاصمة أو حتى جزءً منها كما هو حال الرقيم/ البترا، والتي كانت وظيفتها دينية جنائزية وتعبدية.
ورغم أن تربة البيضه رملية في الغالب وهي تربة فقيرة للزراعة إلا أن الانباط مارسوا فيها أعظم نشاطاتهم الزراعية، ولذلك بَنَوْا نظاماً دقيقاً للمياه يتكون من عدد هائل من الصهاريج والخزانات المسقوفة لجمع مياه الامطار، كما شيّدوا القنوات لجر مياه الينابيع الى مناطق استخدامها، فكانت مياه الامطار في الشتاء توظف بعناية للزراعة وفي الصيف لحاجة الوافدين الى المنطقة هم وحيواناتهم، واستخدموا أيضاً تقنيات زراعية خاصة في البيضة استغلوا التجمع الهائل للحيوانات فيها في فترة الصيف من خلال استعمال الاسمدة العضوية الناتجة من مخلفات هذه الحيوانات لتسميد التربة، لأن وظيفة المكان تتطلب توفير الغذاء للمشتغلين بالنشاط التجاري الذي تركز في البيضه، وبالتالي فالزراعة مهمة لانتاج أكبر قدر من الثمار والاعلاف والنبيذ والحبوب واللحوم وغيرها، ومما يعزز هذا الاعتقاد كثرة الطوابين (أفران الخبز التقليدية) والتي تم اكتشافها في البيضه للحاجة الماسّة اليه في مواسم التجارة الصيفية.
إن من الحقائق التاريخية الثابتة أيضاً أن منطقة البيضه كانت ملتقى القوافل التجارية القادمة من الجزيرة العربية في رحلة الصيف التي أشار لها القرآن الكريم، ومعلوم أن القوافل التجارية كانت تتكون من آلاف البعارين يرافقها مئات الأشخاص، وكانت تتجمع في الصيف في البيضه، قال تعالى: "لِإِيلافِ قُرَيْشٍ*إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ*فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ".
كما كانت البيضة ملتقى القوافل التي كانت تأتي من تدمر ومن غزّة ومن مصر، وكانت النشاطات التجارية في البيضة مرتبطة بمنتجات المنطقة الزراعية كالقمح والحبوب والزيت والنبيذ والفواكه المجففة والجلود وغيرها، كما كانت فترة هذا النشاط التجاري الضخم تنحصر في فصل الصيف الذي يمتد من شهر تموز ولغاية نهاية ايلول تقريباً.