11-09-2022 08:38 AM
سرايا - أحمد الغماز/ ناقد وروائي
تنسجم الروائية والأكاديمية نهال عقيل ـ في روايتها الصادرة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بمائتين وستين صفحة من القطع المتوسط، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة غسان كنفاني للرواية – مع نمط الرواية الجديدة، والتي خرجت بها عن المألوف والسائد في الرواية الحديثة، من خلال كسر الزمن التقليدي، الذي يسير بخط مستقيم بالاضافة الى حركة الحدث التي جاءت وفق الأسلوب السردي الجديد المتنقل بين الماضي والحاضر واستشراف المستقبل، من خلال اللحظة الحالية التي يكون بها (الحكي) الروائي حاضراً وبانتقال شكل عنصر حداثي مهم، من خلال نمط الرواية الجديدة.
وأرى أن هذا الشكل، جاء موفقاً ولا أعتقد أن شكل الرواية الكلاسيكية (الحديثة) سوف يتلاءم مع ذلك الدفق الانساني الهائل لدواخل الشخصيات وارتباطها ارتباطاً حميمياً بالمكان، ولو استخدمت الروائية هذا الشكل لكانت الرواية عادية ولربما لم تأتِ بجديد عما قيل روائياً سابقاً ضمن هذا السياق ، لذلك عمدت إلى الشكل الحداثي في روايتها لتعبر به أكثر عن نفسها، كما قال الروائي آلان روب غرييه، رائد الرواية الجديدة : في نهاية الأمر أنا لا أتحدث إلا عن نفسي.
جاء (الحكي) الروائي، في معظم فصول الرواية على لسان الشخصيتين محمد وعائشة، اللذان ومن خلالهما انبثقت كل تلك الشخصيات الثانوية، خديجة، قاسم، ناصر، الشاعر، صاحب خزانة الجاحظ، وأخيراً راكين! ويبدو أن دلالة اخفاء راكين الى نهايات الرواية، كان له سيميائية سردية عند الروائية وهو يبحث عن تلك الشخصية، ويتساءل أين هي؟ ولماذا جاء عنوان الرواية باسمها؟ وهل هي فقط تلك القرية في مدينة الكرك الأردنية، أم أنها اسم شخصية مركزية في الرواية؟ والمعروف أن عنوان الرواية هو العتبة الأولى التي تتيح للقارىء الكشف الأولي عن مضمون الرواية، كل تلك الأسئلة هي أسئلة مشروعة للقارىء والناقد معاً، الاجابة سوف يجدها القارىء في نهايات الرواية وستحقق له كل فضوله ليعرف لماذا بقيت راكين تنتظر كل ذلك الوقت لتظهر.
(بلادنا على المحك يا عائشة
محمد)
هذه الجملة التي جاءت كإهداء للقارئ وفي الصفحة الأولى من الرواية، قالت وعلى استحياء كل ما تريد الرواية قوله وبثلاث كلمات فقط!
محمد، الموظف الذي يتقاعد من وظيفته، ليفتح مقهى في الكرك، والذي يريد أن يعيش حياة أخرى، ينسجم بها مع الناس بكل مستوياتهم المعيشية، طلاب، موظفون، عمال، باعة متجولون، يريد أن ينزل للحياة الحقيقية في قاع المدينة، ليؤثث لحكايته التي سيرويها، فهم المادة الأولية من الواقع التي ستحيله نهال وبكثير من التخييل الى سرد روائي جديد وحداثي. ولأن هذا الرجل ثائر على العادي واليومي والمألوف، وعلى الرغم بمن انه مجرد موظف ولاحقاً صاحب مقهى، إلا أنه له روح شفافة تبحث عن الحب والجمال والجسد الانثوي الذي يبحث عنه عاطفياً، لم يستطع الانسجام مع خديجة زوجته، التي كانت امرأة عادية تشبه الأرض وأم مثالية لا جديد تقدمه لزوجها.
ثيمة الفقر والشعر والفن:
تذهب الروائية وفي بدايات الحدث الى الكشف عن تلك العلاقة المأزومة بين المثقف والمبدع والمجتمع بكل ارهاصاته وقسوته المتمثلة بضنك العيش الذي يعانيه المبدع وبأن هذا المجتمع غير قادر على فتح أبوابه للشعر والفن والثقافة، فينتهي الأمر بإقصاء المثقف عن محيطه، تمثل ذلك بشخصية الشاعر الذي لم يجد حل الا انهاء حياته بشكل مأساوي بالانتحار
المكان الحميمي:
عمدت الروائية الى اختيار شكل المكان الحميمي في الرواية وابتعدت عن المكان الهندسي، بسبب سياق الرواية الذي سيأتي لاحقاَ بكل تفاصيله العاطفية والحزينة ربما، فوصفت القرى في الكرك وعادات الناس، بفقرهم وحزنهم وأفراحهم، بسهول الحنطة والأشجار والسماء والأرض وبأسماء القرى الواقعية، لتشيد بذلك جسر بين المتلقي والمكان.
التداخل السردي:
ربما من أهم عناصر الرواية الجديدة هو كسر الحدث وتجاوز الزمن، جاء ذلك في مفاصل كثيرة من مفاصل الرواية والتي انتقلت بها نهال برشاقة وبدون افتعال في الرؤية السردية عندما كان (محمد) يروي تفاصيل الحياة في الأردن، فهي أي الروائية استخدمت تقنية، الرؤية السردية من الخلف والتي تتيح لها الدخول في بواطن الشخصية ومعرفة ما ستبوح به.
تتوالى الحكايات المضنية في بانوراما منسوجة باتقان عن الوقائع والأحداث التي مرت على الأردن، ويظهر جليا الانتقال السردي السلس، في الحوار بين محمد وشخصيات الرواية الثانوية، للحديث عن كل قضية تهم الواقع المعاش لدى المواطن الأردني، ابتداء من أحداث قلعة الكرك الى الفساد المستشري والذي سبب حالة الفقر الى قضية مطيع وسجائره ومرورا بصاحب خزانة الجاحظ الذي توفي بحادث دهس مأساوي، إلى اعتصام دوار الرابع وما نتج عنه من تغيير بالحكومة، كل ذلك قالته نهال على لسان شخصيتها المركزية (محمد) بكثير من السرد الحداثي الذي لا يشبه الواقع.
عائشة، قصة الحب التي لم تنته على خير:
شيدت الروائية معمارا روائيا غاية في الدهشة، بإدخالها قصة الحب تلك بين عائشة، الشخصية المفترضة والحقيقية لاحقاً، والتي – برأيي –ساعدت على كسر الوقائع الحياتية، لتفعيل عنصر اللهفة أو التشويق لدى القارئ، الذي استحوذت عليه مشاعر الفضول والترقب والانتظار وهو يقلب صفحات الرواية ليصل الى نهاية قصة الحب تلك.
جاءت شخصية عائشة غامضة، قلقة، تبحث عن ذلك الشيء الذي يشبهها ولا تجده، حتى وصل إليها (محمد) وأدرك أنه أمام المرأة التي بحث عنها طوال حياته ولم يجدها، لكنه قرأ لها منشورا عبر حسابها على الفيسبوك فأدرات عنقه وفتنته، تتوالى الحكايات لاحقاً، في الواقع والمتخيل بينه وبينها لينسجما معاً في قصة حب تميل الى الواقعية السحرية ما بين الفانتازي والحقيقي.
راكين:
عنوان الرواية والشخصية التي اختبأت لتظهر لاحقاً، ابنة محمد من عائشة، تشبهها في كل شيء، الفتاة التي تعشق المسرح والفن، وهنا لا بد لنا من الاعتراف بذكاء الروائية وعمقها، بإظهار راكين كثمرة لتلك العلاقة المليئة بالعشق والحرمان والانتظار، وكأنها – أي الروائية – تريد اخبار قارئها بشكل غير مباشر بأن راكين بالأصل هي محور الحكاية ونقطة التبئير في الرواية.
راكين رواية الحداثة بنمط الرواية الجديدة التي قالت كل شيء، وهنا لا بد من الاشارة بأنني لم اذكر تفاصيل الحدث، لأن ذلك هو شأن القارىء ليكتشف بنفسه بأنه أمام رواية قالته بلغة فاتنة مليئة بالشاعرية اللامرئية حتى وهي تصف بلغة قاطعة، الناس والزمان والمكان والعشق والموت.