17-09-2022 12:17 PM
بقلم : قيس شقير
دمعةً أذرفها وسفح الذكريات، ومرتع الصبا يئن المًا، يسائل نفسه: ما جرى لي؟ أهو الزمان دارت دورته، فحلّ بي ما حل؟ ألم يكفني أن البعض أنكر علي هُويتي؛ حيًا عمانيًا هادئًا وادعًا ضمّ بحبٍ أهل عمان بعائلاتهم التي تمتد جذورها إلى ربوع أردنٍ كبر عن حجم بعض الورد، لينثر ياسمينه عبر شارع كلية الشريعة، نزولًا من متنزّه أو كما كنا نسميه بالعامية "منتزه" اللويبدة، ليغدو حيًا صاخبًا يعجُّ بالمقاهي والمطاعم بضجيجٍ دعا كثيرًا من أهله ليهجروا المكان، وذكرياتهم معلقةٌ فيه، فتصل الحال بالسفح بأن يُسفح دمه أمس بانهيار مبنىً من مبانيه العتيقة في حادثةٍ ما عهدها جبل شامخ كجبل اللويبدة.
ما حل بالجبل؟ وما حل بنا نحن؟ أنحن في زمانٍ ليس زماننا؟ نحزن إذ نرى حيًا يشيخ، فتتساقط مبانية، ويعتصر الألم أهله على فراق برآءَ قضوا متشبثين ببيتهم العتيق، متمسكين بما بقي من ذكرياتٍ أمام زحفٍ مدفوعٍ بالمال بمقهىً هُنا، وكافيتيريا هناك، وليأتي قدرٌ لا يخطئ صاحبه فيجرف مبنىً، ويجرف معه فرحًا بعيد ميلادٍ لطفلٍ دعا صديقه للاحتفال معه، فما هي إلا لحظات افترقا خلالها ليعلن ملك الموت أن ثمانيةً ممن يسكنون الزقاق المؤدي لدوار الحاووز، أو ساحة باريس، كما تدعى اليوم، سكنوا السماء.
نحزن على فقد أرواحٍ بريئةٍ، ونحزن إذ نرى الجبل مكلومًا بجرحين نازفين اقتنص الأول منهما حياة ثمانيةٍ من أبنائه، واغتال الثاني كيانًا يمتد لعام 1949، حيث بُني أول بيتٍ على سفحه.
نحزن، وشريط الذكريات يمر "بالمنتزه" حيث عائلات عمان تجتمع كل يوم جمعة، وحيث كلية الشريعة، وكانت في حينها مدرسة يجول فيها مديرها المرحوم تيسير ظبيان، وننزل إلى شارعها، فنلقى مطعم "أبو محجوب"، ومحلات كثيرة مرتبطة بالمكان، وبأسماء عائلاتها التي فطرت على عيشٍ مشتركٍ بين مسلمٍ ومسيحيٍ، لم يسمعوا عنه في مؤتمراتٍ، ولا حواراتٍ، فأحدهما يذهب إلى صلاة الجمعة في مسجد كلية الشريعة، أو في مسجد السعدي، وآخر إلى كنيسة البشارات يوم الأحد، وكلاهما يعالج جرحًا، أوعارضا صحيًا في مستشفى لوزميلا الذي يتوسط كنيسةً، وكلٌ منهما جارٌ لأطبائه وممرضيه، وممرضاته، وكلهم أولاد بلد....
ونسير فنصل إلى نادي الأردن الذي لم يشيخ رغم تجاوزه الستين من العمر، وبجواره باتيسري فيروز، ومن منا لا يعرفه، ولم يدمن حلواه، ولا يعرف صاحبه على مدى عقودٍ أربعةٍ.
وإن زلفنا قليلًا فلا بد أن نصعد إلى الطابق الثالث على الأقدام، فمبنى المرحوم د. عبد الرحمن شقير، قديم بلا مصعد، اتخذه مقرًا لاستراحة طبيبٍ، عُرف بطبيب الفقراء في خمسينيات القرن الماضي وستينياته في عيادته مقابل الجامع الحسيني وسط عمان، وسياسيٍ أعجزه حال أمتنا، بما آلت إليه.
وبعد، فهناك كثير يقال، لكن المقام يضيق، وأرجو أن يتسع لنداءٍ أستحلفكم به بحق ما لهذا الحي من حضورٍ في وجدانكم، أن تُبقوا عليه بعضًا من ألقه، وإن كان غابرٍا، فلا تشوّهوا تاريخه بزحفٍ عمرانيٍ تجاريٍ صارخٍ، قد يقتله، كما قُتل قبله فندق فيلادلفيا بقرارٍ بيروقراطي غير مدروس.
وبعد، سنمسح الدمع الذي ذرفناه على سفح الجبل، وعلى جنبات الوطن المكلوم حين تُفضي لجان التحقيق إلى محاسبةٍ جادةٍ ومسؤولةٍ، والى ثوابٍ وعقابٍ؛ ثوابٍ أحق الناس فيه نشامى الدفاع المدني، وعقابٍ يطول كل من تسبب بالكارثة.
حفظ الله الأردن، وأهله الطيبين....
قيس شقير
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
17-09-2022 12:17 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |