13-10-2022 05:10 PM
بقلم : د. ظاهر محمد الزواهرة
في غاية الوقت السعيد لا يتذكر الناس أحزانهم، وفي ذلك الوقت بالتحديد تأخذهم الأماني والآمال أبعد مما يرون أو يسمعون، وتأخذهم أحلامهم أبعد من قشتالة، وإن كانت قشتالة على بعد حرف من لغتنا، ونظلّ نذكر أو نتذكر إنْ أردنا ذلك الحلم الذي أغتيل في شبه الجزيرة.
في غاية الوقت السعيد يهرب الناس إلى جبال من الأوهام، ربما تفوق جبال تهامة، وهم يركضون من الفرح، وينسون في ذلك الوقت أيضا كيف يصعد كثير من الأوفياء إلى جبال من رعاف دمائهم، ونحن ننتظر حلما يفرحنا حتى لو كان في منامنا، ونحن نريد حلما يوقظنا من سباتنا في صحواتنا.
آه لو تعلمين أيتها الطفلة البريئة كم كنتُ أسابق الأطفال؟ وكم كنتُ أعبثُ بالأوراق؟ فأيّ طفلة أنت التي تريدني جبلا من الشقاء؟ وأيّ قلب يريدني بلا عشق أموت؟ وأيّ ورقة تكتبني وصيّة قبل الموت؟
آه لو تعلمين يا صغيرتي كيف ألقيتُ قلبي جانبا حين جئتُ لأموت؟ لو تعلمين كم تغيرتِ الأشياء بعد طفولتي؟! فأنتِ لست ِ أنا، وأنا لست ُ الذي يقطف الورود ليعبث بالقلوب؟
مازلت ِ يا صغيرتي تبحثين عن الضياع وأنت فيه، وتكبرين قبل الأوان؟ وتركضين كما النهر، فأين المنبع؟ وأين المصب؟ ومَـنْ الذين يعبرون على عسب النخيل؟ والماء يعلو مرة، وأكاد أراك ِ تغرقين؟ وأنا يا صغيرتي لا أعرف السباحة قبل اليوم!
انظري إلى شعري كيف تبسّم البياض في خصلاته الشعاث؟ وحدّقي في وجهي تري فيه عشرات الهموم والآلام من وقائع أمتي! وكل نكسة ٍ صفحة ٌ فيه، حتى لم يبقَ فيه مكان لنكسة جديدة تضاف لسجل تاريخنا المجيد!
انظري إلى عينيّ: سترين يا صغيرتي ألف أفعى تقترب من جسدي المغطى بالتراب ، تحاول جاهدة أن تنهش لحمي بأظافرها الزرقاء وتمج دمي.
تحسسي قلبي: ستعرفين كم قصة ٍ مرّتْ عليه حين مرّتْ الغزالاتُ تبحث عن شبيه ليلى، فما وجدتْ ليلى، ولا استدلت على شبيهها!
يا صغيرتي: إني كبرت على ما تظنين مني، وأنت لم تعرفي بعد عبث السنين، والهوى المجرد من العشق والغرام، لقد كبرت وأخذتني السنون إلى اللا عودة إلى جيل تمنيت الموت دونه، لقد كبرت بُنيتي، والموت أقربُ من باقة الورد التي تحضرينها إليّ! والموت أقرب من رسالة تخطينها بأصبعيك لعاشق لستُ أنا! لقد أخطأت ِ عنوان البريد!
فأي نظرة منك تعيدني إلى الشباب؟ وأي لمسة منك ترجعني خمسات السنين إلى الوراء؟ وأي جملة من شفتيك الحالمتين تجعلني أبتسم؟ وقد قُـتلتْ حبيبتي في قلب بغداد وبطائرات اليهود؟ ومُـثّل بجسدها الطاهر في أحياء عاصمة الرشيد؟
لقد أخذوا خصلات شعرها رهن قصائدي لأتوب، وأخذوا منديلها الأخضر رهن كلماتي لأعود، وكأنني يا صغيرتي مذنب قد أرتكبَ الكبائر كلّها حين نادى: بغداد حبيبتي، وليمت أبناء الخنازير التي آلفت ِ القرود ؟!
من أنت يا صغيرتي؟ تبحثين عن قصة عشق عند رجل شيّبته الحرب قبل وقوعها، فلما أنشبت أظفارها كانت حبيبتي الضحية والثم ؟! من أنت يا صغيرتي تقفزين عارية من الفرح الذي افتقدته منذ سقطت مدينتي الفضلى على مائدة الغنائم لبوش بلير؟!
شكرا صغيرتي، جئتني لتبعثي فيّ زهرة ذبلتْ حين انقطعتْ دموعي عنها؛ إذ ابيضت عيناي َ من الحزن، وانفطر القلب لمأساة شيدها المغول على باب مدينتنا.
آه يا صغيرتي، لا تبدين سيجارة يضيع نصفها دخانا في الهواء، إن لم تحترق بين أصابع العابثين في المقاهي، ويشربون نخب فتوتهم على أنغام أنشودة المطر، والسماء لم يكن فيها غيمة بيضاء تعبر الحدود.
من جاء بي إلى حديقة بلا شجر؟ من جاء بي إلى طاولة يعانق فيها الأشقياء أقدارهم؟ وكيف سأمضي صغيرتي إلى مكتبة ليس فيها كتاب يصوّر مأساة حبي حين مات في العراق؟ وليس فيها كتاب لا يحمل علامة المجد التي يخطها العابثون بالكتب، من قلوب الحبّ والعبارات المخيفة في الغرام ؟
آه أيتها الباحثة عن مراهق بعد الثلاثين عذّبته القصائد والكتب، آه أيتها العاشقة رجلا صافحته الويلات بين ركام البيوت والمقابر والمساجد، والطائرات ما تزال تزور قبر حبيبتي؛ لتطمئن أنها نامتْ إلى الأبد، وأن بطولتها المقدسة قد اختفتْ، وأن عاشقها قد مزّق الأوراق لحظة ... وألقى بالقلم.
========
*الجامعة الهاشمية، الأربعاء: الساعة : 09: 4 مساء، 20 / 10 / 2010م.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
13-10-2022 05:10 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |