22-10-2022 04:20 PM
بقلم : د. حفظي اشتية
النفس الإنسانية مجبولة على الحنين إلى الماضي وإن كان مؤلما، وقلّما يرضى الناس بالواقع وإن كان مريحا، فما بالك إن كان هذا الواقع كثير المتاعب عظيم المعاناة، فمن الطبيعي أن يرتد الإنسان إلى الماضي يبحث عما يسلّي نفسه ويؤنسه.
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد كان فيه المسؤول مهيبا متفرغا لعمله، مخلصا لوطنه ومواطنيه، لا يغلق بابه، ولا يردّ صاحب حق، وينهض مع مظلوم إلى أيّ ركن في مؤسسته ليتأكد من صحة شكاته، ويبادر فورا إلى إنصافه.
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد كان فيه المعلم موقّرا مجلّلا بالمهابة والاحترام، يعامل طلابه كأبنائه، ويحرق طاقته ومدَّخَرَ جهده في خدمتهم، ولا يهدأ له بال إلا بعد أن يتأكد يقينا أن معلومته وصلت إليهم، وتغلغلت في عقولهم.
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد كان فيه لقب دكتور عزيزا بعيد المنال، لا يناله إلا من كدّ وشقي وكابد، ودفع ثمنه من نور عينيه وسهر لياليه، فأصبح أستاذا جامعيا محطّ أنظار طلابه، ونموذجا علميا أخلاقيا ساميا يتمثلونه ويقتدون به.
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد كانت فيه الشوارع نظيفة، والسيارات قليلة، وجبال عمان متآخية لا شرقية ولا غربية : تتعانق الأشرفية والنظيف والمريخ والقصور والحسين وعمان واللويبدة، وتلتقي بوداعة في رأس العين أو المدرج الروماني أو المحطة.
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد كانت لنا فيه جامعة واحدة ضمت أساطين العلم من مصر والعراق وسوريا والأردن وفلسطين ولبنان وأوروبا.... وطلبة معظمهم فقراء كادحون لكنهم يتفجرون آمالا عذبة، شغوفون بالعلم، حريصون على الرفعة، يوقرون أساتذتهم، ويقدسون وطنهم وأمتهم ومبادئهم.
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد كان فيه الوطن قلبا واحدا : مهاجر شريد طريد من وطنه يحتضنه شهم أبيّ عروبيّ، ويتقاسم معه لقمته، فينصهران معا روحا واحدة في جسمين، ويقيمان أركان الوطن ساعدا بساعد، ويلتحمان استعدادا ليوم الثأر والتحرير المأمول الموعود.
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد كان فيه الشيوخ قليلي العدد، لأن أفعالهم ومآثرهم وتضحياتهم هي التي قدّمتهم، فانصاع لهم الناس طواعية، وآمنوا بهم وقدموهم، وارتضوا أحكامهم والتزموا إشاراتهم، وانضووا تحت عباءاتهم العربية الأصيلة النائية عن الهند والصين.
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد كانت فيه سهولنا تموج بالسنابل الميّاسة، ونعم الله، وخيرات الأرض الشتوية من قمح وشعير وعدس وفول وسمسم وحمص.... والصيفية من بامية وبندورة وبصل وعصفر وبطيخ وشمام.... وكانت الحواكير تفيض زيتونا وتينا وعنبا.
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد كان الوالد يصطحب ابنه إلى المدرسة، يسلّم فلذة كبده إلى معلميه، يتنازل لهم عن لحمه، ويكتفي منهم بالحفاظ على عظمه، مقابل تربيته وتعليمه في مصنع الرجال تتخرج منه الأجيال الجادّة الماجدة التي لم تعرف أو تألف تفاهات المتهافتين والمؤثرين!!ّ
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد كانت الأمة جمعاء تلتف حول المذياع لتستمع إلى خطاب زعيم وهو مهزوم، وتندبه وتبكيه في كل شارع، لأن الروح العربية والإحساس بوحدة المصير وتصيّد الأمل بالنصر كانت هي التي تملأ القلوب وتحرك الجماهير.
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد كانت فيه السماء سخية بالمطر، تحبس الناس في البيوت أياما متتالية، يلتفون حول كانون النار، ويحمدون الله على غيثه، ويستبشرون بمواسم العطاء الباسمة، ولا يتذمرون لأنهم انقطعوا عن رحلة، أو مناسبة مجاملة زائفة.
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد كان العرس فيه في القرية موسما عاما صادقا للفرح، فالكل يشارك من كل قلب، والكل مؤازر مساند مساعد ماديا ومعنويا، فالعريس ابن الجميع، والعروس بنتهم، والفرحة جمعتهم، وحسن النية يزيّن أقوالهم وأفعالهم.
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد كان للموت فيه مهابة وجلالة، وكان الحزن وافيا، والتآلف دافيا، والتراحم ضافيا : نساء يقطّع بكاؤها الحار نياط القلوب، ورجال ملثمون ينشجون بإباء وصمت وكبرياء ، يتجلدون لكن تفضحهم حمرة حدقات العيون.
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد لم يغرق أهله بالأثاث المستورد والرياش الفاخر : هي نملية في ركن عزيز يُحتفظ بها ببضعة أوانٍ نفيسة، وأطعمة مُدّخرة لليالي الشتاء الأنيسة، مَدْرج، وقطعة بساط، وبعض فرشات ولحف ومخدات تعترش سدّة المطوى في حرز حريز.
ــ يأخذنا الحنين إلى عهد كان فيه الأب يربي والأم تربي، والأخ الكبير والمعلم والعم والخال والجار والمختار والرجل المارّ.... كلهم يربّون، ويقوّمون السلوك المعوج، ويهذبون الأخلاق لتستقيم وتعتدل، فكل فتى هو ابن الجميع، وكل فتاة بنتهم، وحب الخير يجمعهم كلهم.
مرارة واقعنا تعصف بنا، وتفصم شخصياتنا، فتجعلنا ننسلّ من هذا الزمان ونرتد إلى ماضٍ نبكيه- بحرقة ونتمناه، ونعلم علم اليقين أنه لن يعود.
ألا ليت ريعان الشباب جديدُ ودهرا تولّى يا بثين يعودُ!!!