30-10-2022 12:07 PM
بقلم : أ. د. ليث كمال نصراوين
تابع العالم برمته مجريات الأحداث الدستورية التي شهدتها المملكة المتحدة خلال الأيام الماضية، والتي بدأت باستقالة رئيسة الوزراء ليز تراس من منصبها كزعيمة حزب المحافظين الحاكم، وبالتالي فقدانها لرئاسة الحكومة البريطانية. فلم يكد يمضي على توليها سدة الحكم ستة أسابيع حتى بدأت تعصف بحكومة ليز سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية، ابتدأت "بالميزانية المصغرة" التي وضعها وزير المالية تروس كواسي الذي اعتمد فيها على زيادة ضخمة في الاقتراض الحكومي، مما تسبب في تراجع الجنيه الاسترليني إلى مستويات قياسية أمام الدولار الأمريكي.
وأمام هذا الواقع الاقتصادي غير المسبوق، اضطرت ليز إلى إقالة وزير المالية، لتبدأ مشاكلها الداخلية مع الحزب الحاكم، والتي انتهت بتوجيه الضربة القاضية لها باستقالة وزيرة الداخلية سويلا برايفرمان من الحكومة.
وقد أعادت هذه التطورات السياسية المشهد السابق قبل عدة أسابيع عندما استقال بوريس جونسون من منصبه رئيسا للوزراء، وخاضت ليز تراس معركة انتخابية حامية مع منافسها ريشي سوناك ذي الأصول الهندية، حيث تمكنت من التغلب عليه بانتخابات داخلية حسمها أنصار حزب المحافظين لصالح ليز.
إلا أن هذه المرة كان الوضع مختلفا، حيث ثارت الشكوك حول قدرة حزب المحافظين على تخطي هذه المرحلة التاريخية من حياته، خاصة وأنه قد سبق وأن نقل السلطة لعدد من الرؤساء السابقين دون اللجوء إلى صناديق الاقتراع، وإجراء انتخابات نيابية تتنافس فيها باقي الأحزاب السياسية في بريطانيا.
ومع ذلك، فقد تمكنت بريطانيا من تجاوز هذه الأزمة السياسية بسبب تجذر مفهوم الحكومة البرلمانية القائم على سيطرة الحزب الفائز على البرلمان وعلى مقاليد الحكم. فقد قدمت دروسا دستورية في تكريس الديمقراطية الشعبية والتمثيل النيابي الكامل، فجرى انتقال السلطة بشكل سلس ومباشر إلى رئيس الوزراء الجديد ريشي سوناك، الذي حصد أكبر عدد من المناصرين له من نواب الحزب في البرلمان. ولم تكن هناك حاجة لاستكمال إجراء الانتخابات الداخلية بسبب انسحاب باقي المترشحين من سباق رئاسة حزب المحافظين الحاكم.
وقد تجلت "ديمقراطية" الحكومة البرلمانية في بريطانيا في العديد من الصور والأشكال أهمها المعارضة الشرسة التي يقودها نواب الحزب الفائز ضد وزراء حكومته الدستورية، حيث نجح النواب المحافظون في إسقاط ليز تراس عن سدة الحزب ومن قبلها بوريس جونسون، الذي ثبت كذبه وتضليله لأعضاء البرلمان فيما يخص فضيحة الحفلات التي كان ينظمها خلال فترة الحجر الصحي بسبب جائحة كورونا. فالمعارضة الحقيقية ضد الحكومة البرلمانية تبدأ من نواب الحزب الحاكم نفسه، قبل نواب حزب المعارضة.
كما تكمن تجليات الحكومة البرلمانية في احترام إرادة ممثلي الشعب في كيفية إدارة شؤون الدولة واختيار من يمارس السلطة باسمهم ونيابة عنهم. فعلى الرغم من المركز الدستوري لملك بريطانيا بأنه الحاكم الأعلى لكنيسة انجلترا وأنه يتمتع بصلاحيات دستورية تثبت له بهذه الصفة، إلا أن الحاكم الأول في بريطانيا اليوم هو شاب هندي ثري يعتنق الديانة الهندوسية، والذي اختاره نواب الحزب الحاكم ليقود مسيرة الحزب ويتولى رئاسة الحكومة، دون التقيد بأي اعتبارات أخرى تتعلق برمزية الدولة الدينية وإرثها القديم.
وقد شاءت الأقدار أن تشهد بريطانيا هذه الحالة الفريدة من تكريس إرادة الشعب وحقهم في التمثيل الحر في الفترة التي لم تستعد فيها الدولة عافيتها جراء وفاة الملكة إليزابيث وانتقال ولاية العرش إلى ابنها الملك تشارلز الثالث. فقد رافق هذه الأحداث الدستورية تطبيق نصوص قانونية مستحدثة في قانون توارث العرش لعام 2013، تتعلق بالمساواة بين الوريث الشرعي المتزوج من إمراة كاثوليكية وأخرى من الكنيسة البروتستانتية.
وتبقى الإشارة الأبرز ضمن هذا المعترك السياسي إلى حزب المعارضة، وهو حزب العمال الذي تشير استطلاعات الرأي إلى تفوقه الكبير على حزب المحافظين الحاكم بأكثر من (30) نقطة. فقد حاول رئيس الحزب العمالي كير ستارمر الضغط نحو حل البرلمان وإجراء انتخابات نيابية جديدة كانت ستؤمن له رئاسة الحكومة وبفارق واسع من حيث عدد النواب في البرلمان.
إلا أن رئيس حزب المعارضة قد احترم إرادة الحزب الحاكم بعدم اللجوء إلى هذا الخيار، واثقا بأن ما ستشهده الأشهر المتبقية من عمر البرلمان الحالي والوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي ستواجهه حكومة المحافظين الجديدة، ستزيد من متاعب الحزب الداخلية، وستجعله يفقد شعبية أكبر خلال الفترة القادمة. وهو ما سيسهل من مهمة حزب العمال في العودة إلى السلطة بعد سنوات طوال، وذلك في الانتخابات النيابية القادمة في عام 2024.
* أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية
laith@lawyer.com
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
30-10-2022 12:07 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |