19-11-2022 08:47 AM
سرايا - محمد رمضان الجبور
ماذا يخبئ لنا د. محمد السماعنة في جرته الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية، التي ضمّت بين دفتيها خمساً وأربعين قصة قصيرة وقصيرة جداً، تنوّعت في موضوعاتها، وإن كانت تحمل في ثناياها عنواناً كبيراً رئيساً يُلخص محتواها (الجرة)، وهي مفردة تراثية تحمل الكثير من الدلالات، ومن أبرز هذه الدلالات أنها تخاطب فئة من الناس يعيشون في مساحة جغرافية محددة، إلا أن ذلك لم يمنع القاص من توظيف القصة فيما يُطلق عليه النقد الاجتماعي، فمعظم قصص المجموعة تتناول الهموم العامة التي يعاني منها المجتمع بأسلوب ساخر فيه الكثير من الغرائبية.
والمتصفح لقصص المجموعة تتراءى له وجوه النقد الاجتماعي الذي عبر عنه القاص بلوحات عدة مختلفة، عابقة بالتهكم والسخرية اللاذعة، وتحمل في طياتها الانتقادات الصارخة، فالقاص د. محمد السماعنة ينتزع أفكار قصصه من الواقع والمجتمع، ويغلفها بخياله الخصب المتميز الفريد، سواء كانت هذه الأفكار اجتماعية أو سياسية أو ربما كانت تحاكي القيم والمعاني الإنسانية العميقة.
ففي قصة (النومة الشهرية) التي يصف بها القاص مجموعة من الناس يسيطر عليهم ويتحكم بهم مختار القرية ويخدمه القطروز لا تخلو من النكهة السياسية التي يقدمها القاص للمتلقي، وقد ألبسها ثوباً من الغرائبية والفانتازيا والكوميديا الهادفة، فالقرية ومن فيها ليس لهم إلا النوم، النومة الأولى والثانية والثالثة، ونومة الوطن... في إسقاط سياسي جميل لوصف الأمة العربية التي غلبها النوم، ولكن من يُعكر صفو هذه النومة هو الشخصية الرئيسية التي سوف نراها في أكثر من قصة (محمد بن أبي جمال)، فهو لم ينم بل بقي يراقب النائمين؛ لذلك استحق العقاب.
وتهتم قصة الأول للأول بتصوير مشهد تكررت رؤيتنا له، فكل الذين اعتادوا ركوب تلك الحافلات يتذكرون المشهد بكل وضوح، فالحدث الذي تعالجه القصة حدثاً مألوفاً، وقد برع القاص في تناوله للحدث وفي نقده الاجتماعي لما يحدث مع تلك الفئة من الناس بأسلوب إدرامي جميل مُعبر، فيه الكثير من السخرية للواقع الذي نعيشه، وشخصية « محمد بن أبي جمال « هي شخصية مسالمة تُمثل شريحة عريضة من شرائح المجتمع، تُنفذ ما يصدر لها من أوامر من غير مناقشة أو تردد، وتحمل القصة أيضاً مغزى سياسيا عميقا.
وفي قصة (الجرة) التي اختار القاص عنوانها لتكون عنواناً لمجموعته القصصية، نرى أن القاص قد طرح مشكلة ليس لها قيمة تُذكر، فإحدى النساء (حمدة السالم) قد وقعت منها الجرة، وهي في طريقها اليومي إلى النبع، فأصبحت هذه المشكلة حديث أهل القرية جميعهم، خطباء المساجد، المختار، نساء القرية، وتشكيل لجنة تحقيق، ولجنة استقصائية بحثية؛ فالقاص يريد أن يرسل رسالة إلى المجتمع العربي عامة مفادها أننا شعب يهتم بسفاسف الأمور، ويصنع منها قضية، نقد لحالة المجتمع العربي ، وكيف يجعل من التافه والحقير أمراً هاماً، وفي القصة يتناص القاص مع الكثير من الأمثال والحكايات التي تخص الجرة، ويوظفها لتناسب محتوى النص.
وفي كل قصة من قصص المجموعة نرى القاص يرصد بعين الناقد الحصيف جملة من القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية والإنسانية و العاطفية والنفسية، فهو يتلمس بحسه المرهف أكثر صور المجتمع رواجاً في الكثير من القصص، ويعيد رسمها بقلمه وصوته، ففي قصة (الصياد) يعالج القاص عادة تفشت في الكثير من المجتمعات – الإشاعة – وهي « المعلومات أو الأفكار، التي يتناقلها الناس، دون أن تكون مستندة إلى مصدر موثوق به يشهد بصحتها، أو هي الترويج لخبر مختلق لا أساس له من الواقع، أو يحتوي جزءاً ضئيلاً من الحقيقة» ، ففي قصة الصياد يُشاع أن « محمد بن أبي جمال « صيّاد ماهر، لا يُشق له غبار كما يقولون، «قالوا: محمد ابن أبي جمال صاد ذئبا، ثم قالوا صاد أسدا، وأما الأرانب التي صادها فتكفي لإطعام أهل نابلس كلهم، وأما عن صيده الشنار فحدث ولا حرج، وقل: ما شاء الله! فمحمد ابن أبي جمال صياد بالفطرة، تأتيه الطرائد حبوا وزحفا وركضا مختارة طائعة.. رميه لا يخيب» الجرة ص 32
فالإشاعة من العادات التي أصبحت لها الحضور في مجتمعاتنا، وقد طرحها القاص بأسلوب سلس وجميل وفيه الكثير من الرمزية.
وفي قصة (لمدينة العوجاء) يصور لنا القاص في مشهد درامي جميل، تلك المدينة التي قرر رئيس بلديتها بـ(طعج) كل ما في المدينة وحنيه وربطه، فالبنايات عوجاء، والسلالم عوجاء، والشوارع متعرجة، حتى الكلام يجب أن يصبح باعوجاج.. الاعوجاج نهج حياة، ويظهر من الناس (محمد بن أبي جمال) الذي يرفض ويشجب ما قام به رئيس البلدية، فيكون مصيره السجن، ولكنه يستيقظ وإذا بالأحوال قد تغيرت، « وكم تفاجأ حين أفاق بأن الزنزانة لم تكن ملتفة، وأنها خالية من أي اعوجاج؛ فلم تكن قضبانها محنية، وكل ما فيها كما كان يوم ألقوه فيها لمخالفته نهج الاستقامة السابق.» الجرة ص 47
وفي ذلك رسالة بأنه لا بد من وجود من يتكلم، فالصمت لا يجدي، فمحمد بن أبي جمال لم يرضَ بقبول ذلك العوج، فرفض، رفض أن يبقى ويعيش في مدينة عوجاء، نقد اجتماعي لمن يرون العوج، ولا يتحركون ولا يرفضون.
والمتصفح لمعظم قصص المجموعة يرى أن القاص قد استل قصصه وحكاياته من المجتمع، ومما يدور حوله من أحداث، فالمجموعة بكل محتواها تعالج قضايا اجتماعية بأسلوب جاز لنا أن نقول إن فيه الكثير من السخرية المبطنة، والكثير من الغرائبية والتشويق، فنحن لسنا أمام قاص انتهج طريق غيره، بل كان له أسلوبه وطريقته في السرد، تفرّد بها دون غيره، وأصبح صاحب بصمة في القصة القصيرة، فمعظم قصص المجموعة ترى فيها الغرابة في الطرح وعدم المباشرة، بل يترك للمتلقي المجال للتفكير والاستمتاع بما يقرأ.
ومما يلفت انتباه المتلقي، هذه الشخصيات التي وظفها القاص د. محمد السماعنة وكررها في الكثير من القصص، حتى باتت ملك القاص دون غيره، شخصية (محمد بن أبي جمال)، فهذه الشخصية سوف نراها في الكثير من القصص، وتلعب أدواراً كثيرة، فهي الثائرة طوراً، والمتمردة في قصة أخرى، والضعيفة والقوية، فالقاص قد أجاد توظيفها في الكثير من القصص، حتى أصبحت الأثر الذي يميز قصص القاص من غيرها في الكثير من الأحايين، ونكاد نجزم أن شخصية محمد بن أبي جمال، تتحدث بلسان القاص د. محمد السماعنة.
وهناك شخصيات أخرى وظفها القاص في الكثير من القصص، مثل شخصية المختار والقطروز، فهي من الشخصيات التراثية التي تناسب الفضاء العام لبعض القصص، وهي من الشخصيات التي تؤكد جنوح القاص لتناول الهم العام، والهموم الاجتماعية، فقد أجاد القاص في رسم هذه الشخصيات التي تنقل المتلقي إلى البيئة والمكان الذي أراده القاص، فمعظم قصص المجموعة تدور في فلك القرية وفي جو قروي يمتاز ببساطة من يعيشون فيه، وفي ذلك تلميح وإسقاط لما تعاني منه الكثير من الدول العربية أمام هيمنة الدول الكبرى والإذعان لها، هكذا يمكن أن نقرأ بعض القصص بمنظار البعد والجانب السياسي.
ففي قصة (إزعاج ) يمنع المختار ويحرّم كلمة (لا) قراءة وكتابة وإشارة، ويُذعن الناس لأمر المختار، ولكن القرية تغيّر حالها، وقامت ولم تقعد، واشتعلت النار في جوانبها، فيسرع المختار إلى القطروز لينادي في الناس أن قول (لا) مسموح وضروري».
فالقصة تحمل في طياتها فكرة ورسالة أبعد مما باح به القاص، ففيها الرمزية وفيها السخرية مما تعاني منه الكثير من المجتمعات العربية، فقد غلب عليها الجانب والبعد السياسي، ومن قرأ بين السطور يرى ذلك العمق الذي وظفه القاص في مثل هذه القصة.
وكما تنوّعت موضوعات المجموعة، فقد تنوّعت أحجام القصص، فظهر مجموعة من القصص القصيرة جداً والتي قد لا تتجاوز الخمسة أسطر، مثل قصة وسادة، مرايا، حبل الغسيل، غرفة واحدة، حب، كلب، نصيحة، اقرع الجرس.
لقد تميّزت لغة المجموعة بمجموعة من الميزات التي أضفت على معظم القصص التفرّد والتميّز، فقد اعتمد القاص على لغة تناسب الفضاء العام لقصصه، فكانت اللغة تتسم بالسهولة والعمق، وإضفاء الجو العام المناسب للحدث، وتشويق المتلقي للمتابعة، فقد وظّف القاص الكثير من العناصر الجمالية، التي زادت من تماسك لغة القص، فقد وظّف الأمثال الشعبية في الكثير من قصص المجموعة: « أم محمود وهي ترمي نظراتها بعنف إلى جارتها أم سعد: «والله إنو اختراع كويس ومنيح وابن حلال خلينا نعرف القرعة من أم قرون». ص 14
وفي قصة (الجرة) أم العبد جارة أم حمدة وهي تلحن كلماتها تلحينا: (حط الجره على ثمها بتطلع البنت لأمها).
- «ليش يما، هي أمها كسرت جرة وهي صبية؟»
- «بدناش نغتاب حده، أستغفر الله العظيم». ص 18
كما وظّف أساليب سرد متنوعة فاستخدم التقنية المعروفة باسم «الفلاش باك» أو ما يسمى بالسرد العكسي، كما وظّف الحوار بأسلوب جميل ينم عن موهبة وخبرة في التعامل مع النصوص والأحداث بشكل لافت، وحرص على استخدام المفردات التي تناسب الفضاء العام للقص حتى يضع المتلقي في الجو الطبيعي والعام للقصة، فكانت اللغة في معظم القصص إحدى الميزات الجمالية، بل وجعلت للقاص أسلوبه الذي يميّزه عن الآخرين.