28-11-2022 11:55 AM
بقلم : السفير قيس شقير
تحلُّ علينا اليوم، ذكرى الراحل الكبير، فنذكره، ونعدد مناقبه رجل دولةٍ أضفى على مواقع المسؤولية التي تسلمها روحًا وطنيةً، وفكرًا عروبيًا، أسكناه قلوب الأردنيين، وعقولهم.
ولكي لا تمر الذكرى بنمطيةٍ التذّكر فحسب، نتوقف عند فكر الراحل، ومنهجيته، في قراءةٍ موجزةٍ للمرحلة الزمنية التي عاشها وصفي التل، وتربطها بواقعنا اليوم، أردنيًا، وعربيًا.
فقد ورث وصفي عن والده مصطفى وهبي التل - عرار- شاعر الأردن، شخصيته أردنيًا صميمًا، في بلدٍ كان أيام والده حديث النشأة، وتحت وطأة استعمارٍ بريطانيٍ فرنسيٍ قيّد طموحات بلاد الشام بمملكةٍ عربية متحدةٍ يقودها ملكٌ عربيٌ نبوي النسب، فنمت معه مشاعره القومية العربية، ووطنيته الرافضة للاستعمار، وثورته على الواقع الذي يفسده مخطط غرس إسرائيل كيانًا في قلب العالم العربي، وفي إحدى أقدس بقاعه.
وكان لمولده في العراق، وتعلمه في مكتب عنبر في دمشق، ثم تطوعه في الجيش البريطاني الأثر الواضح في بنية شخصيته عسكريًا، وموظفًا، فمسؤولًا، ورجل دولةٍ.
وكان على وصفي التل أن ينسج، أو أن يسهم - على الاقل- في نسج سياسةٍ تحفظ للبلد كيانه، وتسهم في واجبه القومي نحو فلسطين، قضية العرب التي آمن بها، وبواجب تحريرها، بقدسها، وأقصاها، وكنائسها.
وفُرض على الأردن حينها، لا أن يدافع عن حقه في كيانٍ مستقلٍ، كباقي أشقائه، بل وأن يدافع عن حقٍ فرضه الواقع، إذ أن ما احتل في الخامس من حزيران عام 1967، كان جزءًا من أراضيه، وكان استرجاعه من صلب مسؤولية سيادته دولًة مستقلةً. إلا أن هذا تقاطع مع توقٍ فلسطينيٍ مدفوعٍ برؤيةٍ عربيةٍ لاضطلاع منظمة التحرير الفلسطينية بمهمة التحرير، وتمثيل الشعب الفلسطيني حصرًا.
وهنا، نقف على مسألةٍ مصيريةٍ لا ريب أنها تفسر مآلات اليوم، بدءًا من قرارات قمة الرباط عام 1974, مرورًا بالحرب الأهلية في لبنان عام 1975، واجتياح بيروت عام 1982، فكامب ديفيد عام 1979، فأوسلو عام 1993، إلى نقض اتفاقية أوسلو وما بُني عليها، كما نراه اليوم، بتفاصيلٍ لا يتسع المقام لذكرها.
وكانت رؤية وصفي التل - رحمه الله- للصراع العربي الإسرائيلي، تنبع من تسميته: "عربيًا إسرائيليًا"، لا "فلسطينيًا" فحسب. ولعل الواقع اليوم يسند فكر وصفي التل، ويؤكد أحقيته. فرؤيته قامت على حرب استنزافٍ على حدود الدول العربية مع إسرائيل، لا تقوى إسرائيل على استمرارها. وكان يشترط أن يُدعم العمل الفدائي الفلسطيني بمساندةٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ من الأردن و الدول العربية معًا، لا أن يُلقى الواجب القومي هذا، على الفلسطينيين فحسب، أو أن يترك للأردن دون مشاركةٍ بنيويةٍ من أشقائه.
و قد ثبت - بعد حين - أن ما جرى في أيلول عام 1970، هو انعكاسٌ لرؤيةٍ خاطئة، تكررت في لبنان عام 1982، قادت لأوسلو واخفاقاته.
ولقد كان لاستراتيجية إلقاء مسؤولية التحرير على الفصائل الفلسطينية أن تصادمت هذه الفصائل -في طريقها إلى التحرير- والذي أفضى إلى اتفاقية أوسلو غير المكتملة، مع وعائها القومي الذي توفّر في الأردن، ثم في لبنان، في تقاطعٍ بيّنٍ مع الرؤية القومية التي تبناها الأردن قيادةً وشعبًا في سبيل استرجاع الضفة الغربية المحتلة بقدسها التي أكد المغفور له الحسين بن طلال أن عودتها مهمةٌ يتوالاها بشخصه سندًا لشرعيةٍ هاشميٍة لا يمكن بحالٍ التخلي عنها.
وهذا ما ينسجم ورؤية وصفي التل بأن حرب الاستنزاف تفتح الطريق كي تؤدي الدولة مهامها القومية في إطار عربيّ داعمٍ. ولعل ما أورده ليفي اشكول رئيس وزراء إسرائيل خلال حرب حزيران في مذكراته من استعداد أبداه بعد اسبوعٍ من انتهاء الحرب لإعادة ما احتل من أراض الضفة الغربية إلى الأردن، مقابل معاهدة سلامٍٍ يوصلنا اليوم لفهمٍ واقعي لما جرى، وما يجري اليوم على امتداد رقعة وطننا العربي، وما كان بالإمكان تحقيقه.
لقد ظُلم وصفي التل، إذ لم يصغ إليه في حينه أحد، فكالوا له تهمًا يدركون اليوم أنها تعكس خطأً لديهم في الرؤية السياسية لواقع الصراع العربي الإسرائيلي، والذي ما وجب أبدًا اختزاله بصراع فلسطينيٍ إسرائيليٍ كما هي الحال اليوم. ولعلنا نذكر في السياق هذا، ما قاله المرحوم عدنان أبو عودة من أنه لم ير المغفور له الحسين بن طلال غاضبًا، كما رآه في مؤتمر قمة الرباط عام 1974.ولقد كانت غضبة الحسين لاستشعاره مخاطر الاختزال هذا، والذي أفضى إلى اتفاقٍ لم يحرر الأرض بعد، بل ترك الباب مفتوحًا لصراعٍ لا تلوح له نهايةٌ في الأمد المنظور، حسب المعطيات على أرض الواقع.
ولقد أسهم في نجاح نموذج رجل الدولة الذي سعى إلى وصفي، ولم يسعِ إليه، الظروف السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي عاشها الأردن، لا من واقع مساع الهيمنة البريطانية على مقدراته، فحسب، بل ومن تداعيات القضية الفلسطينية، والتي ارتبط بها وصفي التل، ارتباط الأردن بها. فكان لرجل دولةٍ بمثل هذه التجربة، والتي يضاف إليها ارتباطه شخصيًا بالأرض، أرض الأردن، والتي طبعت شخصيته في جانبٍ لم يلمسه إلا من اقترب منه، ليراه يزرع "حاكورة" منزله المتواضع، وهو رئيسٌ للوزراء، بيده، كان لهذه التجربة أن ترسخ في قلوب الأردنيين، وضمائرهم، تستجيب لمشاعرٍ وطنيةٍ لم تصطدم يومًا بفكرهم القومي العروبي، بل جاءت مكملةً له.
رحم الله وصفي التل، وأدام ذكراه عطرةً.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
28-11-2022 11:55 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |