03-12-2022 08:12 AM
سرايا - فنادراً ما يُصادفنا مَن يتميزُ ويُشار إليه بالبَنان في الترجمة ونقدها معاً، إلا أن الأميرن اجتمعا في شخصية الدكتور يوسف بكار العبقرية، فنراه مترجماً ضليعاً وناقداً متمرساً متبحراً؛ وعليه، فقد شكّلت الترجمةُ ونقدُها محوراً مهماً من محاور حياته الأدبية والعلمية على مدى أكثرَ من أربعين عاماً. وهذا نابع من إيمانه الراسخِ الذي لا يَتزعزعُ بالدور الكبير الذي تُؤدِّيه الترجمةُ في تطوير الفكر الإنسانيِ، وفتْحِ باب الحوار بين مختلف الثقافات. وعندما قُيِّض له السفر إلى إيران في سبعينيات القرن المنصرم بُغْية تأسيس قسم اللغة العربية وترؤُّسه، كان أنْ تَعرَّف هناك إلى اللغة الفارسية عن كثب، وأتقنها كلَّ الإتقان، وخَبِر أسرارها وخفاياها، وعَرَف استعاراتِـها وإيماءاتِـها وظلالَ معانيها؛ حتى لَكأنّه أضحى من أهلها وممن شَرِب من مناهلها الصافية الزُّلال. وهذا كلُّه أَهّله لتدريس مُقرَّر الترجمة بين العربية والفارسية في تلك الجامعة. وما زالت جامعة الفردوسي في مشهد تَعترف له بجميله الذي لا يُرَدُّ وخدماته الجليلة التي لا تُقدَّر بثمن إلى يوم الناس هذا. والأجملُ أنه خَلّد اسمَه على موقع الجامعة الرسمي بوصفه مؤسِّساً لقسم اللغة العربية في الجامعة، وأول من درّس مقرر الترجمة فيها.
وفيما يلي أقفُ وقفةً عَجْلى على بعض المحطات الرئيسة في حياة الدكتور بكار وتَجواله في عوالم الترجمة في رحاب اللغتين العربية والفارسية.
المحور الأول: ترجمات الدكتور بكار من الفارسية وإليها
لعلنا لا نُغالي إذا قلنا إنّ الدكتور بكار كان من أوائل من أَوصل صوت شعريةِ نزار قباني إلى مسامع الإيرانيين فأَرْهفَها وشَنَّفَها؛ فكانَ منه أن تَرجم بالاشتراك مع المرحوم الدكتور غلام حسين يوسفي كتابَيّ «قصتي مع الشعر» لنزار قباني؛ وهو ما قيل فيه إنه أشبهُ بالسحر منه بأي شيء آخر. وكذلك كتاب «مختاراتٌ من الشعر العربي الحديث» للدكتور مصطفى بدوي، وطبعت الترجمتان غير مرة في إيران؛ بل تجاوز أمرُهما إعادةَ الطباعة، فقد أصبحتا إلى يومنا الراهن مقرَّرَين من المقررات الدرسية الأساسية في أقسام الترجمة في الجامعات الإيرانية، بوصفهما نموذجَين على الترجمة المثالية الدقيقة من العربية إلى الفارسية.
أما ما نقله الدكتور بكار عن الفارسية إلى العربية، فهو:
أولاً: ترجمة كتاب «سياست نامه» (سير الملوك) لنظام الملك الطوسي؛
وهي ترجمةٌ مثالية ذَلَّلها الدكتور بكار خير تذليل، وما انصاعت له هذه الترجمةُ إلا لأنه تَشرَّبَ بثقافةٍ واسعة رحيبة بشؤون تراث فارس، وفَهمه لها فهماً عميقاً مكّنه من سبر أغوار لغة الكتاب. ناهيك عن إدراكه بأهمية الكتاب وضرورة وجوده على رفوف المكتبة العربية؛ لندرة موضوعه وأهميتها. وجدير بالذكر أنّ الدكتور بكار لم يَكتف بترجمة الكتاب وحدها، بل أَعمل عِلمَه النقدي الرصين في تحقيق الكتاب أيضاً، لإيمانه بأن التحقيق ركن أساس في ترجمة كتب التراث، فرصد تحريف وتصحيف النساخ وتلاعب الكتاب، عارضاً جميع ذلك على مَحك المقارنة والمقابَلة بين طبعات الكتاب الفارسية المختلفة، وحرص كل الحرص على أن تكون ترجمتُه للكتاب كاملةً غيرَ منقوصة، وذلك حين تَرجم ما حُذف من طبعات الكتاب الفارسية لاعتبارات مذهبية أو قومية؛ وهدفُه من وراء ذلك كله تقديمُ ترجمة دقيقة محققة للقارئ العربي هي الأقربُ إلى أصل الكتاب.
ثانياً: ترجمةُ كتابِ «وقفة مع الخيام» (دمي با خيام)، للمرحوم علي دشتي.
وانطلاقاً من أنني كنت قد نشرت في وقت سابق مقالاً تناولتُ فيه ترجمة الدكتور بكار لكتاب «سير الملوك» فسأتناول ترجمةَ كتاب «وقفةٌ مع الخيام» بتفصيل أكبر.
لقد جاء اختيارُ الدكتور بكار هذا الكتابَ للترجمة نتيجة جهوده المضنية خلال خمسة وثلاثين عاماً من إبحاره في بحار الخيام ومنادمته الرباعيات تأليفاً وتحقيقاً وترجمة؛ إذ تبين له أن كتاب علي دشتي قد يكون أهم ما كُتب عن الخيام، وهذا الأمر معهود عن الدكتور بكار؛ فهو لا يَكلّ من القراءة والبحث عن الأفضل والأنجع، ولا يتسرع في اختيار ما يُترجِم من الكتب إلا بعد أن يطمئن بالُه العلمي، وإلا بعد أن يتأكد من مصداقية الكتاب وأهميته وموثوقية مصادره وقدمها.
ومع أن عنوان الكتاب، وهو «وقفةٌ مع الخيام»، قد يكون مقبولاً لدى القارئ الفارسي، إلا أنّ الدكتور بكار ارتأى أن هذا العنوان لا يتناسب كثيراً مع محتوى الكتاب، ويُنقص من قيمته العلمية ولا يشكلُ نبراساً يرشد القارئ إلى مضمونه، فأضاف عبارة: «في البحث عن الخيام والرباعيات» إلى عنوان الكتاب ليكون العنوان بحجم المحتوى ودالاً عليه.
كثيراً ما كان مؤلف الكتاب حين ينقلُ النصوص من مصادرها يكتفي بذكر اسم شهرة الكتاب أو صاحب الكتاب من دون أن يأتي على ذكر عنوان الكتاب وتوثيقه؛ وهذا نهجٌ مُتَّبعٌ معروف لدى كبار الكتّاب الإيرانيين، إلّا أنّ الدكتور بكار عمل على تثبيت اسم الكتاب كاملاً في الحواشي والهوامش، وقدم معلومات عن محققه وطبعاته ليسهل على القارئ العربي الرجوع إليه.
ومن أمثلة ذلك قول المؤلف: «وردت الرباعيات في بعض المصادر مثل (وصاف)»؛ وكلمة «وصاف» هي اسمُ شهرة الكاتب، وهذا غير مفهوم للقارئ العربي. فما كان من الدكتور بكار إلّا أنّ وَضّح في الهامش أن اسم الكتاب الأصلي هو: «تجزية الأمصار وتزجية الأعصار»، ولكن الكتاب اشتهر بـ «تاريخ وصاف» نسبةً إلى صاحبه شهاب الدين عبد الله الشيرازي الملقب بـ«وصاف الحضرة».
ولم يعمل الدكتور بكار على إعادة ترجمة النصوص العربية المترجمة إلى الفارسية في الكتاب، وإنما كان يعود إلى الأصول وينقلها كما وردت في النص العربي، ليضمن عدم ابتعاد النصوص العربية المترجمة إلى الفارسية عن أصولها ولغتها، والأمثلة من الكتاب كثيرة.
ويُعرف الدكتور بكار بالكتب الفارسية الواردة في الكتاب والمترجمة إلى العربية مع ذكر مترجمها؛ على سبيل المثال كتاب «جهار مقاله»، الذي أوضح الدكتور بكار بأن المرحوم عبد الوهاب عزام ترجمه إلى العربية، وكذلك كتاب «تاريخ جهان كشا» الذي ترجم جزءاً منه الدكتور محمد السعيد جمال الدين.
كذلك يُصحح الدكتور بكار أخطاء المؤلف أثناء نقل بعض المعلومات بسبب السهو أو عدم التثبت، كحديث المؤلف عن الحكاية العاشرة في المقالة الثالثة من كتاب «جهار مقاله»، ويعلق الدكتور بكار في الهامش أن الصحيح هو الحكاية التاسعة.
يُسجل الدكتور بكار في حاشية الترجمة ما يَقوم به المؤلف من دخل وتصرف في ترجمة بعض النصوص العربية إلى الفارسية؛ من ذلك ترجمة المؤلف لحكاية حول الخيام وردت في المصادر العربية.
نَرى أن المؤلف يكتفي أحياناً بذكر صدر بيت الشعر ويهمل عجزه أو يذكر كلمتين منه ولا يكمله، فعمل الدكتور بكار على إتمامه في الهامش؛ ومثال ذلك البيت التالي الوارد في الهامش: (سبقت العالمين إلى المعالي/ بحسن خليقة وعلو همّة)، علماً أنّ المؤلف لم يذكر إلّا كلمتين منه، وهما: (سبقت العالمين...).
يَشرح الدكتور بكار الكلمات الفارسية المعربة في حاشية الترجمة؛ من ذلك كلمة «فالوذج»، المعربة عن «بالوده» الفارسية؛ وهو نوع من الحلوى يُصنَع من الدقيق والماء والعسل. كما يذكر الدكتور اللفظة المقابلة لها في العربية إن وجدت.
وعلى الرغم من علم الدكتور الواسع في العربية ومقدرته اللغوية، إلا أنه يتجنب استخدام الكلمات الغريبة التي يَصعب على القارئ فهمها. ليس هذا وحسب، بل تراه إذا ظنَّ أن كلمة قد يصعب فهمها في الترجمة شَرَح معناها في الهامش؛ مثال ذلك كلمة «العَطَن»؛ وهي مبرك الإبل، وتعني في النص «ضيق الصدر».
لا يترجم الدكتور بكار بعض الأمثال الفارسية، ويسعى ما وَسِعَه الجهدُ إلى إيجاد بديل لها من الأمثال العربية؛ وذلك لخصوصية الأمثال اللغوية والثقافية وارتباطها بحادثة معينة. ومن أمثلة ذلك المثل الفارسي: «ز آن نمد كلاهى داشت"؛ وترجمته الحرفيةُ كما يقولُ بكار: «لو أن له من ثوب الحرير غطاءَ رأس»، فاستبدل الدكتور بكار به مكافئا عربيا له، وهو: » لو أن له من الكعكة نصيب». أما إذا كان مضمون المثل مفهوماً لدى القارئ العربي وقريباً من ثقافته، فهو يترجمه حرفياً كما فعل مع المثل الفارسي: «كردو كرد است، اما هر كردى كردو نيست»، وترجمه بـ «الجوز دائريّ، وليس كلّ دائريٍ جوزاً»، ومع ذلك تراه يضع مثيلَه في الهامش كقولنا في العربية «ليس كلّ ما يلمع ذهباً».
إنه يُرجِع الرباعيات الواردة في الكتاب ويَردُّها إلى مصادرها الأصلية التي وردت فيها لأول مرة.
زِدْ على أن الدكتور بكار اضطر إلى عدم ترجمة ثلاث رباعيات منسوبة إلى الخيام؛ أما الأولى فلبذائتها الأخلاقية، وأما الثانية والثالثة فلم يذكرهما المؤلف في متن الكتاب وذكرهما في الحاشية، ومع ذلك لم يترجمها الدكتور بكار لاعتبارات دينية، وسجل ذلك في هامش الترجمة مبرراً سبب حذف الرباعيات الثلاث.
يراعي الدكتور بكار خصائص العصر الذي أُلف فيه الكتاب لغة وأسلوباً؛ فعمل على استخدام لغة عربية معاصرة في ترجمته. ولو أجرينا مقارنة بين اللغتين اللتين استخدمهما بكار في ترجمة «سير الملوك»؛ وهو كتاب يعود إلى القرن الخامس الهجري، وبين ترجمة كتاب «وقفة مع الخيام» المؤلف في القرن العشرين، لوجدنا أننا أمام لغتين مختلفتين في اللغة والأسلوب؛ وهذا هو روح العصر الذي حافظ عليه الدكتور بكار خيرَ محافظة من خلال اللغة التي استخدمها في الترجمة.
ثالثاً: ترجمةُ رباعيات الخيام
لقد ارتأى الدكتور بكار بعد أن صاحَب الخيام ورباعياته في رحلة طويلة أن يُقْدِمَ هو نفسُه على ترجمة الرباعيات، فاستقر اختيارُهُ على خمس وسبعين رباعية رآها الأقربَ إلى خطاب الخيام وفكره بعد رحلة طويلة معها، وترجمها كما يقول ترجمة نثرية اتصالية ضمنية دقيقة غير خفية، وحافظ على فكرة كل رباعية، وبؤرتها المركزية؛ وتعد هذه الترجمةُ هي الأحدثَ عربياً وأقلّها عدداً لرباعيّات الخيام.
رابعاً: ترجمة البحوث
ترجم الدكتور بكار عدة بحوث علمية لصديقه المرحوم الدكتور يوسفي؛ وهي بحوث تتميّز بالدقة العلمية والرصانة المنهجية. وقد نُشِر بعضُها في كتابه «نحن وتراثُ فارس».
المحور الثاني: نقد الترجمة
لا شك أن الدكتور بكار يعدّ من أبرز نقاد الترجمة من الفارسية إلى العربية والعكس، ولا أحد يضاهيه في هذا الحقل؛ فقد أنجز في نقد الترجمات عدة كتب، لعلَّ أهمها «الترجمات العربية لرباعيات الخيام: دراسة نقدية»، وتُرجم الكتاب إلى الفارسية أيضاً. وكتاب «الترجمة الأدبية: إشكاليات ومزالق». وأدخل المشهد الأدبي الأردني إلى فضاء آداب الشعوب الإسلامية والآداب الفارسية على وجه الخصوص، من خلال دراسة الترجمات الأردنية السبع لرباعيات الخيام دراسة تحقيقية تحليلية مقارنة مع الترجمات الأخرى ومع النص الأصلي المترجم عنه، ومع النص الفارسي الأصل.
وقدم الدكتور بكار نقوداً في غاية الدقة للترجمات الفارسية لأشعار سعاد الصباح، يستشهدُ بها كلُ من يشتغلُ في حقل الترجمة من الإيرانيين، ونبّه إلى عدم الاستهانة بالترجمة من الفارسية وإليها وقد تكون هي الأصعب، والأكثرُ عرضةَ لكثير من المزالق والأخطاء لما بين اللغتين من تداخل واقتراض لغوي تتغير فيه معاني كثير من الألفاظ ودلالاتها في اللغة الأخرى.
وما ينماز به الدكتور بكار في نقوده للترجمات، ذكره لمحاسن الترجمة ومناقبها، قبل مزالقها ومثالبها.
لقد تمكن الدكتور بكار من تأسيس مدرسة تُعنى بنقد الترجمة على أسس علمية واضحة، ووضع القواعد والأسس غير التقليدية والمتداولة لها، ولم تكن من باب التنظير، بل جاءت نتيجة خبرة شخصية طويلة متأنية في الترجمة ونقدها، حتى غدا من أبرز نقاد الترجمة بين العربية والفارسية.
ولم يكن غريباً أن تُتوَّج جهود الدكتور بكار في الترجمة بفوزه المستحق لجائزة الشيخ حمد الدولية في الترجمة والتفاهم الدولي في دورتها لعام 2020 مكافأةً لتميز إنجازاته في الترجمة ونقدها والتأليف بها.