05-12-2022 08:23 AM
سرايا - أثارت فعاليات الدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية، الكثير من الجدل على أكثر من صعيد، سواء وسط ما دار من آراء بين العديد من النقاد والإعلاميين، أو على صعيد الجهات المنظمة للمهرجان، الأمر الذي حدا برئيسة المهرجان د.سونيا الشامخي إلى تقديم استقالتها فور انتهاء حفل الختام.
تباينت مواقف النقاد المدعوين لتغطية الفعاليات حول تلك الأسئلة، التي ناقشت اختيارات القائمين على المهرجان للأفلام المشاركة، سواء كانت هذه الأفلام تونسية أو عربية أو أفريقية، مرورا بتلك الإضافات التي احتوت عليها أقسام وبرامج المهرجان، فضلا عن مغزى وجود السجادة الحمراء في استقبال الضيوف، مثلما كانت هناك العديد من الملاحظات التي ظهرت في بعض كتابات الصحافة المحلية.
والحق أن الدورة قد أنجزت على الوجه الأكمل الذي درجت عليه دورات المهرجان السابقة، ومن المعلوم أن مهمة القائمين على المهرجان لهذه السنة لم تكن سهلة، لأن عدد الأفلام العربية المنجزة حديثا ليس كبيرا، خاصة أن العالم بأسره بدأ للتو في التعافي من جائحة كورونا، وكان من الصعوبة بمكان على المهرجان، أن يختار براحة تامة هذا العدد الوفير من الأفلام التي توزعت على العديد من الفعاليات، وبعضها جرى استحداثه هذه الدورة، وكانت بمجملها تتناغم مع هوية أيام قرطاج السينمائية التي تكرست طيلة العقود الستة الفائتة. هذا عدا أن السين?ا العربية ما زالت تعاني من تحديات التمويل.
كل هذا قاد إلى أن تكون خيارات أيام قرطاج السينمائية في غاية الصعوبة، إلا أن همّة العاملين على المهرجان، نجحت في استقطاب جملة من الأفلام التونسية والعربية والإفريقية، إلى جوار استحداث أقسام جديدة، جرى فيها استعادة قامات رفيعة في السينما العربية والأوروبية الجديدة، كان منها قسم «تحت المجهر» الذي جرى فيه الالتفات إلى إبداعات من السينما الفلسطينية وأفلام مخرجات جدد من إسبانيا، احتُفل بعرضها ومناقشتها بحضور عدد من صانعيها. ومن الأفلام التي عُرضت في هذا القسم: «حتى إشعار آخر» للفلسطيني رشيد مشهراوي، و«عائد الى ح?فا» للعراقي قاسم حول»، و«المخدوعون» للمصري توفيق صالح، و«3000 ليلة» للفلسطينية مي المصري، و«كفرقاسم» للبناني برهان علوية، و«مملكة النمل» للتونسي الراحل شوقي الماجري، بالإضافة إلى عدد من الافلام التسجيلية للمخرجة اللبنانية الراحلة جوسلين صعب، وصولا إلى اشتغالات المخرج العراقي قيس الزبيدي في حقل السينما التسجيلية.
من الواضح أن ما تضمنته دورة هذا العام من نقد للسينما السائدة، كان يحمل لمسات من اشتغالات شابة كأنهم يطالبون بسينما جديدة، أو ما يحيل المتلقي إلى تلك الجذور التي تأسست عليها أيام قرطاج السينمائية قبل ستة عقود، وقد كان لعدد من بين تلك الأفلام الحائزة على جوائز التانيت الذهبي أصداء واسعة في عالم الفن السابع.
لقد حملت الدورة الأخيرة شعار «إنا باقون على العهد»، واستقطبت عشرات الإبداعات السينمائية بشقيها القصير والطويل، الآتية من أرجاء المعمورة، والتي تستعيد وتستذكر في آن، حالات النهوض السياسي والاجتماعي والتمرد الفردي على وقائع مثقلة بالآلام والأوجاع القاهرة في أكثر من بيئة إنسانية، أبرزها على نحو جلي وصارخ فيلم «فاطمة السلطانة التي لا تنسى» للمخرج المغربي المخضرم محمد عبدالرحمن التازي، وقد عرض في حفل الافتتاح تكريما لمخرجه الذي اختير رئيسا للجنة تحكيم المهرجان. إذ يوثق الفيلم بأسلوبية درامية محطات في حياة المفكرة الراحلة فاطمة المرنيسي.
وهناك أيضا الفيلم المغربي «العبد» للمخرج عبدالإله الجوهري، الذي يصور جملة من الأحداث القاتمة حول الأغلال التي تكبل الإنسان المعاصر، مزنرا بقوالب من السرد الجمالي الفتان، ليخلص إلى أن الحرية تكمن في الحب بسائر أطيافه.
في حين يطوف بطل الفيلم النيجيري التسجيلي "ترامادول" أصقاع أكثر من قرية وشارع لغايات ترويج حبوب الهلوسة وهو يقود دراجته النارية، ويتنقل بين أهالي قرى إفريقية متحديا قسوة الطبيعة والقوانين السائدة في بيئته، قبل أن يلقى القبض عليه من السلطات لينال عقابه.
وتغوص المخرجة التونسية الشابة أريج السحيري، في أول افلامها الروائية الطويلة "تحت الشجرة"، في بقعة بسيطة من الريف التونسي وسط عالم من المهمشين، عبر جولة ترحال مجموعة من الشباب في موسم قطاف ثمار الشجر، وفيها ترسم كاميرا المخرجة عوالم ثرية من الطبيعة الآسرة المفعمة بالقصص والحكايات عن علاقات هؤلاء الشباب والفتيان، وما تنطوي عليه من براءة وصدق وعفوية، تحكمها عواطف وأحاسيس مليئة بالمواقف الشاعرية الفطنة، وهو ما منح الفيلم جائزة التانيت الفضي.
وظفر الفيلم الروائي السوري «الطريق» للمخرج عبداللطيف عبدالحميد، بثلاث جوائز رفيعة هي: جائزة الجمهور، بالإضافة الى جائزتي أفضل ممثل وأفضل سيناريو، عن حكاية بسيطة تسري وقائعها على أطراف قرية تطل على الساحل السوري، تفيض بتلك الرؤى الجمالية والدرامية العذبة، حول الحنين والمثابرة بغية الارتقاء والرغبة في التغيير عما يدور من مرارة في النفوس، وهو ما يؤصل لدى شخوص الفيلم الشعور بالفرح والبهجة. هناك مثلا علاقة حب هادئة لفتى وفتاة أمام عيني الجد، المعلم المتقاعد الراغب في حماية حفيده وتحصينه بالعلم اتقاء من جور الفق? وصدمات العيش الصعب.. ثمة تفاصيل عديدة يقبض عليها المخرج عبد الحميد في باحة القرية ليطل منها على أحوال أفراد وجماعات مغمسة بالدعابات حينا، والمواقف القاسية حينا آخر.
وقدم المخرج إميل شيفجي من تنزانيا بفيلمه «الثوار» - ظفر بالتانيت الذهبي - قصة تجمع بين الحب والسياسة، دارت وقائعها في السنوات الأخيرة للاستعمار البريطاني لزنجبار، حيث يلتقي أحد المناهضين للاستعمار في ساعة متأخرة من الليل فتاة شابة من أصول هندية، لتبدأ لحظات من الاستدراك والتأمل في الواقع الصعب الذي يقود لاحقا إلى الانعتاق من قيود سياسية واجتماعية وثقافية، لطالما كانت تكبل تلاوين من البشر في هذه البيئة وتحول دون تمتعهم بالحرية والطبيعة وعناق الآخرين وثقافاتهم.
في حين استطاع المخرج الجزائري الشاب أنيس جعاد في فيلمه «الحياة ما بعد»، وهو أول أعماله الروائية الطويلة، أن يتتبع ظروف فتاة تجبر على الفرار من القرية مع ابنها صوب مدينة كبيرة، وذلك بعد ظهور شائعة حولها في قريتها، وينهي رحيلها حياة مسالمة لتبدأ فصلا جديدا مليئا بالتقلبات والمنعطفات والتحولات، وكان لا بد عليها أن تواجه مصيرها بعناد وإصرار وتصميم على عدم السقوط والسعي للنهوض بكبرياء إلى جوار ابنها المراهق الذي بات عليها أيضا أن تبقى إلى جواره للحيلولة من وقوعه في فخاخ الآخرين.
حرصت أيام قرطاج السينمائية على تقديم فعاليات موازية ترتقي ببرنامج المهرجان حين عملت على خلق مساحات للنقاش والحوار والتفكير حول قضايا وأسئلة السينما الملتزمة والتعريف بسينمات شباب وشابات جدد في السينما السعودية والسينما الإسبانية الجديدة. واستعادت الدورة أيضا عوالم كاميرا المخرج الإيطالي ذائع الصيت فيدريكو فيلليني، مثلما جرى تنظيم العديد من العروض الخاصة التي تحتفي بأفلام: جان لوك جودار، وفرنسوا تروفو، ومي المصري، وهشام عيوش. كما احتفل للمرة الاولى باستحداث أسبوع النقاد، الذي جرى فيه التأكيد أن هذه التظاهرة?تستطيع أن تضيف لأصالتها وعراقتها أبعادا أخرى في التطوير والانفتاح على منجز الفن السابع وآفاقه الرحبة.