22-12-2022 08:35 AM
سرايا - اختتم أمس في كليّة الآداب بالجامعة الأردنيّة الملتقى النقدي الثاني لبيت الشعر-المفرق، بمناقشة موضوع «التشكيلات السرديّة في الشعر الأردني المعاصر»، من خلال عدد من النماذج الشعريّة الأردنيّة.
وفي الجلسة التي أدارها رئيس قسم اللغة العربية في الجامعة الأردنية الدكتور عبدالله المانع، شاركت د.ليندا عبيد بورقة قرأت فيها الشاعر مهدي نصير، ضمن عنوان المشهدية السردية وجمالية التجديد الفني في ديوان «امرأة حجرية».
ووقفت د.عبيد عند ملامح التجديد في الديوان بدءًا بالمجازات الطازجة واللغة العصرية التي تحتفي باليومي وتفاصيله، والتي تجعل من العادي البسيط كثافة وعمقًا ضمن رؤى وتصورات تدلل على رؤى الشاعر وتصوراته إزاء واقع عربي مُنهك ترشح منه الهزيمة والتشظيات.
وقالت عبيد إنّ الشاعر نصير يؤرخ في ديوانه للموت واليباس ونذر الشر والخراب والتحجر قبل أن يُعنى بملامح الحياة ونسغها، فنقبض على صور متناقضة لامرأة حجرية تحمل من القماءة والبشاعة الشيء الكثير بدلًا من أن تكون إلهة للخصب والحياة، فتتعاضد ملامحها وسلوكاتها لتدلل على ما في الواقع من قبح وخراب وملامح للموت ضمن ثنائيات صادمة.
وقرأت عبيد أيضًا موضوع القصة القصيدة والقصيدة، وتضافر السرد والشعر والشعرية والإيقاع الداخلي في تخليق المشاهد، واحتشاد النص بتقنيات السرد كالوصف والحوار والمونولوج، ورسم ملامح الفضاءات المكانية ضمن تكنيك يتفاعل به الشعر مع المشهدية السينمائية؛ إذ يقدم لنا لقطة بعيدة، ثم يقترب شيئًا فشيئًا لنقبض على تفاصيل لقطة قريبة، مما يجعلنا نحتاج أن نسبر أعماق النص بتأنٍّ وبأكثر من قراءة لنقبض على المعنى الذي يُحس، ولا يُلمس، فتتداعى المرجعيات والتناصات، وتصير المشهدية السردية سمة تجديدة حاضرة بقوة تتخذ من ملامح الحياة?اليومية وسيلتها، لتتلاحم اللقطات القريبة والبعيدة في خلق مشهد واحد يتحرك ضمن مايقرب من ثمانين قصيدة ومقطوعة لتمد إصبع الاتهام إلى واقع عربي يتقوقع في القديم، ولايرى هزيمته.
وقالت نصير إن الشاعر نصير يقدم تجربة حداثية متجددة مكتملة الأركان، تعنى بالتصوير والأساطير والمجاز، وتحتفي بالمكان والزمان، وتؤشر على ثقافة غنية ومرجعيات متعددة، مما يتطلب قارئًا ممتلكًا لأدواته يمتاز بالصبر والتأني ليقبض على ما يتوارى وراء لوحاته الشعرية.
وفي ورقته «أبعاد القصّ وانطباع النصّ المُتَّكئ على التّاريخ الدّينيّ: تجربة عبدالله أبو شميس الشعرية في كتاب المَنسيّات»، تحدّث د. ريحان المساعيد عن الكتاب الذي يحتوي على عشر قصائد، في أصوات نسائه العشرة، اللواتي عرفنا أسماءهنَّ في مرجعيات متنوعة كالكتاب المقدس، وهنَّ أزواج أنبياء وبعضهن أمهات لهم، أو شخصيات نسوية وردت الإشارة إليهن في النص القرآني وهنَّ:(حواء، ووالهة، وهاجر، وراحيل، وصفّورا، وخديجة، ومريم، وبلقيس، وزُليخا، وآسيا).
وقال المساعيد إنّ الشاعر يحاول جاهداً إنصاف صوت المرأة بإظهار مشاعرها الإنسانية المسكوت عنها، وذلك ضمن خط زمني للحظة أو موقف يستدعي البوح والكشف لا التغطية والستر، وخاصة مشاعر المرأة الأم أو المرأة الأنثى. ورأى المساعيد أنّ ما يسترعي الانتباه والدهشة في هذه النصوص أنها نصوص شعرية ذات أبعاد فنية خيالية، وهذا هو الأساس، وهي في الوقت نفسه شخصيات حقيقية واقعية مرت بتجربة بشرية تطول أو تقصر ضمن امتدادها الزمني، بحيث تضع القارئ في فضاءات نصوص مفارقة في حداثتها ورؤيتها التي تستفز مشاعر المتلقي وتدفعه دفعاً للتفكر?مليّاً فيما أضفاه الشاعر على صوت المرأة الإنساني الخاص، متجاوزاً التاريخ بحرفيته وصدقه، وفي الوقت نفسه مستنداً إلى مرجعية النص القرآني فيما ورد فيه من إشارات خاطفة، ولكنها دالة ويقينية.
وقال المساعيد إنّ دراسة القصائد العشر تنحو بدايةً للخلوص إلى انطباع عام يغلف النصوص ويحيط بشخصياتها النسوية، وهذا الانطباع يُعدُّ عبارة مفتاحية لكل قصيدة، فبعد إجالة النظر في التجربة الإبداعية للشاعر نلحظ أن (الانتصار لتجربة المرأة) الأساس الذي بنى عليه الشاعر قصائدة التي تحاول استبطان تجربة المرأة في مواقف متنوعة بتنوع الشخصيات الشعرية العشر. وقال إنّه وبالرغم من أنّ القصائد عنونت بأسماء شخصيات حقيقية، فيتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أنّ الشاعر أراد قراءة تاريخ هذه الشخصيات قراءة حقيقية، تصحح ما وقع فيه م? أخطاء، ورغم أن لذلك شيئًا من الصحة في بعض الأحيان، إلا أنّ القصائد العشر في الواقع ليست إلا أعمالاً فنية إبداعية، فكما يقول الشاعر نفسه في مقدمة كتاب المنسيّات:» لا بدّ من التأكيد على أن هذا العملَ كلَّه قائمٌ على الخيال».
ورأى المساعيد أنّ تجربة أبو شميس الشعرية في استبطان مشاعر المرأة الإنسان بكل حالاتها البشرية، كانت سببًا لكشف ما لم يصرح به في تجارب الشعراء فكان رائدًا في تعبيره الإبداعي عن هذه التجربة بكل محمولاتها.
وأخيرًا، حملت ورقة د.عطالله الحجايا عنوان «أسطرة الذات في نماذج من شعر راشد عيسى»، محترمًا آراء النقاد والمنظرين في هذا الموضوع، ومقدّمًا ملاحظات في ظلالهم رأى فيها أنّ الأسطورة قد تداخلت مع مفاهيم التاريخ والحكاية الشعبية وتعدد روايات الموروث وإعادة بناء حكاياته وفق بيئات متنوعة يدخل فيها الخاص بالعام والديني بالأسطوري والممكن بالمستحيل، وهو ما جعل تجارب الشعراء متفاوتة في توظيفهم للأسطورة.
ومن خلال استقرائه لتجارب في الشعر الأردني قال الحجايا إنّ الأسطورة شكّلت فرصةً للشعراء للتخلص من المباشرة في نصوصهم ومن الكثير من الخيبات في محيطهم، والأهم أنّها مثلت التفافًا ذكيًّا على الرقيب. وقال إنّ اللجوء إلى الأسطورة يمثل انزياحًا مشتركًا بين الشاعر والأسطورة، فالشاعر ينزاح عن الواقع والأسطورة تنزاح عن التاريخ ليشكلا معًا تعبيرًا جديدًا بمحمولات خاصة تنفتح على التأويل وتعدد القراءات؛ وصرّح الحجايا بأنّ هذا الاستقراء كشف له عن سطحيّة فجّة في توظيف الأسطورة لدى الكثيرين ممن لجأوا إلى توظيفها في نصوصهم? فمنهم من اكتفى بقشور اللفظ دون لبّ المعنى فبدت المفردات الأسطورية ولا سيما مفردات الثقافة الإغريقية التي أكثر الشعراء من استخدامها مقحمةً باهتةً لم تضف لنصوص هؤلاء الشعراء إلا مزيدًا من الغموض والتشظي، وقد كان هذا سببًا كافيًا لعدم ظهور نصوص أسطورية عالية في القصيدة الأردنية ملتصقة بالثقافة الأردنية، لعدم اطلاع جمهور المتلقين على دلالات هذه الرموز من جهة ولارتباط هذه النصوص بتعدد الآلهة من جهة أخرى في مجتمع موحّد يؤمن بإله واحد، ولذلك بدت هذه الرموز منبتة، فلم تحمل دلالاتها التاريخية من جهة ولم يستطع الشع?اء إنتاج دلالات جديدة لها، فبدت معلّقةً في فضاءات القصيدة كالأورام الحميدة، لم تضف جمالًا ولم تقتل صاحبها. وتحدث الحجايا مفصّلًا في البعدين: الجمالي والموضوعي، ومواضيع لذّة النص ووصول المعنى والغموض وتوظيف الأسطورة ومدى تحقيق متعة التذوق أو غزارة المعنى ودهشة التعبير، ورأى أنّ من أهم أسباب عجز الشعر الأردني عن توظيف الأسطورة توظيفا دالًا هو رغبة الشعراء في القفز إلى قارب الحداثة دون اصطحاب أطواق النجاة معهم، لسيادة اعتقاد لديهم أنّ الحداثة مرتبطة بمفردات الأسطورة الإغريقية وأساطير ما قبل الإسلام في محاولة ?اصرة للحاق بالسياب والبياتي وأدونيس ومن ثم محمود درويش وأمل دنقل.
وفي حديثه عن الشاعر الدكتور راشد عيسى مؤسطرًا نفسه، أكّد الحجايا أنّ شاعريته تنبثق من تجربة ذاتية عميقة متنوعة ومتعددة المشارب ومن قدرة عالية على تجاوز المألوف وخلق الفضاءات الخاصة أو تكييف ما هو متاح منها بما يناسب ذائقة القصيدة، وقال إن راشد عيسى يبدو ميالًا إلى أسطرة شعره أو أسطرة ذاته في شعره منذ بواكير تجربته الشعرية، فاستعراض عناوين دواوينه بوصفها بوحًا عن نوايا الشعر لديه تكشف عن هذا الميل وتفضح النوايا، وتمثّل الحجايا بدواوين عيسى: «امرأة فوق حدود المعقول»، «بكائية قمر الشتاء»، «حفيد الجن»، «عرف ال?يك»، «جبرياء»، «ريشة صقر»، أباريز»، «دمعة النمر»، وكتاب"رشدونيوس». ولفت الحجايا إلى أنّ راشد عيسى عرّف ديوانه «حفيد الجن» بوصفه سيرة شعرية بينما عرّف كتابه"رشدونيوس» بأنّه «هويتي الشعرية»، لتشكّل هاتان العتبتان مدخلًا دالًا على فهم منابع الشعرية الأولى لديه. وقال الحجايا إنّ رغبة راشد عيسى في أسطرة ذاته شعريًا تتجلى في عدد غير قليل من قصائده ولا سيما في ديوانه «حفيد الجن»، إذ يقدّم مشهدًا أسطوريًّا لمولده يبدأ من لحظة المخاض ولا ينتهي بناي الأب وهو يعزف فرحًا بمقدم الطفل. كما تحدث عن راشد عيسى في التوظيف ا?مناظر للنص الديني، والحوار الدائم مع الجنّ، لينشأ بعد ذلك كائنًا أسطوريًّا.