22-12-2022 05:59 PM
بقلم : الدكتور عماد نعامنة
مَن أدمى عينيكِ يا سيّدة اللّغات؟ من فجع حرفك النّورانيّ يا أمّ اللغات؟ من أقضَّ مضجعك يا صاحبة التاج؟ ما لصوتِك قدّ بُحَّ وأنتِ أصيلة الأصوات والحركات؟
يا صاحِ، إنّها وزارة التربية والتعليم حارسة الفكر والقلم، باتتْ تؤطِّرني، تقلِّم امتدادي، وتقضم مشهدي، وتخفت أنواري، وأبنائي مدهوشون.
عُذرًا، عذرًا يا صاحبة المقام السّامي، يا دُرّة الفصاحة والبيان، فما نحن بصامتين، وما غمض لنا جفنٌ يومًا عمّا تلبَّسَتْه يدا وزارة التربية والتعليم من غضّ لطرفك، وتهميش لمقامك... ولكنَّ مَن أجرى القدرُ القلمَ بين أيديهم يا سيّدتي لا يرعوون، لا يبالون ولا يأبهون، وكأنّ آذانهم قد صُمَّتْ وأعينهم سُمِلَتْ، وألسِنتهم عُقِدَتْ: صمّ بُكم عُميّ فهم لا يقيمون للنداء وزنًا، فكم كتبنا، وكم ناشدنا، وكم خاطبنا، وكم نادينا؟ وحسبُنا أنّنا كاتَبْنا مجمع اللّغة العربيّة الأردنيّ المؤسّسة الوطنيّة المرموقة التي منتهى غايتها النهوض باللغة العربيّة والنأي بها عن النّكوص والارتكاس، فخاطب المجمع مشكورًا الوزارة بحتميّة إجباريّة مبحث اللغة العربيّة مُحتَسَبًا في معدّلات الطلبة، ولكن لا حياة لمن تنادي.
ألم تعلمي يا وزارتنا أنّ الدستور الأردنيّ نصّ على أنّ اللغة العربيّة هي اللغة الرسميّة للدولة؟ أما تعلمين أنّ اللغة أداة الفكر والثقافة، وأنتِ ناشرة الفكر والمعرفة؟ أما تدركين أنّ اللغة هُويّتنا وأساس سيادتنا ومنبع قيمنا الأصيلة، وأنت تعزّزين القيم الخلّاقة؟ فكيف سيعتزّ طلبتنا بلغتهم؟ إنْ كنتِ تعلمين ذلك فتلك مصيبةٌ وإلّا فالمصيبة أعظم.
يا وزارتنا العتيدة، بمَ نعتذر للغتنا الحبيبة – والعذر أقبح من ذنب - حين جعلتِ مبحثَ اللغة العربيّة (التخصّص) مبحثًا لا يُحتسب في مُعدّل الطلبة، فيحقّ لهم حذفه لمجرّد تحقيق النجاح فيه؟ وليت الأمر توقّف عند ذلك، فإنّ ممّا زاد الطين بلّةً جعْلك مبحث الرياضيّات إجباريًّا لطلبة الفرع الأدبيّ، هذا الفرع الذي نأى الطالب بجانبه عن الالتحاق بالفرع العلمي ابتعادًا عن دراسة الرياضيّات - وليس هذا غضًّا من طرفها، فلها ولدارِسيها ومعلّميها ومشرفيها والقائمين عليها محبّة ومودّة، فقيل: الرياضيات أمّ العلوم- ولكن لبّ الرّشد يا وزراتنا يقتضي أنْ يحلّ مبحث اللغة العربيّة مكان مبحث الرياضيّات، ولا سيّما أنّ الفرع أدبيٌّ لا علميٌّ. وجميعنا يذكر أيام كانت اللغة العربيّة مبحثًا إجباريًّا للفرعين: العلميّ والأدبيّ على حدٍّ سواء، ولا يغني مبحث اللغة العربيّة (المشترك) عن اللغة العربيّة (التخصّصيّ) شيئًا إطلاقًا.
فأيّ تهميش هذا للغتنا العربيّة؟ وليتكِ أيا وزارتنا تدركين عينَ الإدراك أنّ تدنّي مستوى التحصيل الأكاديميّ لدى طلبتنا يرجع في أساسه إلى تغريبها وتهميشها؛ فالتدريس أضحى باللهجة العاميّة المحكيّة في حين أنّ الكتب المدرسيّة مكتوبة باللغة العربية الفصيحة، فكيف نُدرِّس بلهجةٍ أجنبيّة غريبة غير لغة الكتاب؟ لعَمْري – وهذا عن تجربة ميدانيّة – إنّ كثيرًا من طلبتنا لا يَعونَ ما في الكتب ولا يستطيعون الإجابة عن مفردات الاختبارات إلّا لأنّهم لا يفقهون اللغة التي كُتِبَتْ فيها، فإذا ما رُحْنا نترجم فصيحة الكتاب إلى عاميّة الحكي وعى الطلبة وانهمرت الإجابات على أسِنّة أقلامهم كجلمود صخر حطّه السّيل من علٍ، ذاك لأنّنا غيّبنا اللغة العربيّة ورحنا نُهرّج داخل الصفوف وخارجها بلكنة غريبة الوجه واليد واللسان.ّ
وأيّ إنصاف للغة العربية ذاك يا وزارتنا الحكيمة حين قرنتِ مبحث اللغة العربيّة التّخصّصيّة ذي ثلاثة الكتب بصفحاتها التي نافت على الثلاثمئة والخمسين صفحة كثيرًا (369) مع مباحثَ أخرى كالحاسوب مثلًا ذي المئة والخمسن صفحة وتزيد قليلًا (158) وكذا الثقافة الماليّة وغيرهما، مع الإجلال والإكبار. فهل تظنّون يا سادة يا أصحاب القرار في وزارتنا – وبعض الظنّ إثمٌ - أنّ الطالب سيختار اللغة العربية ويهجر والحالة هذه مبحثَ الحاسوب وما شاكله من مباحث ؟ ما لكم كيف تحكمون؟ أليس منكم رجل رشيد؟!
يا وزارة التربية والتعليم، الآمال عِراض، فكفكفي دموع العربية وأهليها، ولا تفجعي أهل العربية بعربيّتهم، فها هي ذهِ العربية تستصرخك بمهجة حرّى، وبفؤادٍ أصبح فارغًا كفؤاد أمّ موسى عليه السّلام، وبعينينِ دامعتين تكادان أنْ تبيضّا كمدًا وحزنًا وأسفًا كما ابيضّت عينا يعقوب على يوسف عليها السّلام، فأعيدي لمبحث اللغة العربية هيبته ومجده، فهو مبحث سياديّ، حقيق بنا أن نحفظ للغة ألقها وتألقها، بهاءها ونقاءها، وألّا تُؤتى من قِبَلِنا ونحن ينبغي أنْ نكون خادميها وسادِنيها، وقد شغفتنا حبًّا.
أكتفي بهذا القدر، ففيه كفاية، ولو أردت لزدت. وفي مقالي القادم بمشيئة الله تعالى سأتتناول حال اللغة العربيّة وصورتها في الإطار المطوّر من لدن المركز الوطنيّ لتطوير المناهج تحت مسمّى" الإطار العامّ والخاصّ المطوّر لمبحث اللّغة العربيّة ومعاييرها ونتاجات تعلّمها ومؤشِّرات أدائها". وكلّ ما لا يُقِيم للعربيّة وزنَها بالقسطاس المبين حتمًا ليس بتطوير، ولا حتّى مرّ به مرورَ الكِرام. واللهُ خيرٌ حافظًا.
بقلم الدكتور: عماد زاهي نعامنة
خبير تربوي مناهج - اللّغة العربيّة
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
22-12-2022 05:59 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |