31-12-2022 01:10 PM
بقلم : الشيخ سعيد نواصره آل عبادي
إن من أعظم الأسباب التي تمهد للفتن الدهماء بين أهل الإسلام هو الانفصال الفكري أو المنهجي عند بعض الطوائف والجماعات - وكثير من الأفراد والعوام - في المسائل العامة الكبرى - لا سيما تلك التي لها مساس قوي بأمن الدولة وأمان الناس وعصمة دمائمهم - إما بتأويلات فاسدة للنصوص الشرعية بعيداً عن الأصول الفقهية التي قررها العلماء ، أو المحاكاة اللاواعية للنظم السياسية الغربية السائدة وما أفرزته من المناهج الدخيلة - كالمعارضة والتحزب وحرية الفكر - بتطبيقاتها العملية كالمظاهرات - مثلاً - أو الإضرابات والعصيان المدني وغير ذلك من الوسائل المحدثة التي يستحيل ضبطها شرعاً ولا عقلاً .
أما التأويل الفاسد فباب خطير جداً فُتح قديماً ولا زال يأتي الأمة منه الويلات والنكبات ، وتجرع المسلمون الغصص بسببه دينهم ودنياهم ، كيف لا وهو قد أسس لمناهج التكفير المنفلت والتبديع والتفسيق ، واستحلال الدماء المعصومة بحكم الكتاب والسنة ، يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - وقد أطال النفس وأبدى وأعاد :
"وَإِنَّمَا أُرِيقَتْ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ وَالْحَرَّةِ وَفِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَهَلُمَّ جَرًّا بِالتَّأْوِيلِ... فَمَا اُمْتُحِنَ الْإِسْلَامُ بِمِحْنَةٍ قَطُّ إلَّا وَسَبَبُهَا التَّأْوِيلُ؛ فَإِنَّ مِحْنَتَهُ إمَّا مِنْ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَإِمَّا أَنْ يُسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ بِسَبَبِ مَا ارْتَكَبُوا مِنْ التَّأْوِيلِ، وَخَالَفُوا ظَاهِرَ التَّنْزِيلِ، وَتَعَلَّلُوا بِالْأَبَاطِيلِ،
فَمَا الَّذِي أَرَاقَ دِمَاءَ بَنِي جَذِيمَةَ وَقَدْ أَسْلَمُوا غَيْرُ التَّأْوِيلِ حَتَّى رَفَعَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَتَبَرَّأَ إلَى اللَّهِ مِنْ فِعْلِ الْمُتَأَوِّلِ بِقَتْلِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ؟
وَمَا الَّذِي سَفَكَ دَمَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَأَوْقَعَ الْأُمَّةَ فِيمَا أَوْقَعَهَا فِيهِ حَتَّى الْآنَ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟
وَمَا الَّذِي سَفَكَ دَمَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِهِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟
وَمَا الَّذِي أَرَاقَ دَمَ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَأَصْحَابِهِ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟
وَمَا الَّذِي أَرَاقَ دَمَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَادَاتِ الْأُمَّةِ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟
وَمَا الَّذِي أُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاءُ الْعَرَبِ فِي فِتْنَةِ أَبِي مُسْلِمٍ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟
وَمَا الَّذِي قَتَلَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ الْخُزَاعِيَّ وَخَلَّدَ خَلْقًا مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي السُّجُونِ حَتَّى مَاتُوا غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟
وَمَا الَّذِي سَلَّطَ سُيُوفَ التَّتَارِ عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى رَدُّوا أَهْلَهَا غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟..." اهـ
وذلك لأن التأويل الفاسد يمنع التصور السليم للمسائل الفقهية عامة أو المتعلقة بقضايا النوازل على وجه الخصوص، وبالتالي يحجب الفهم الصحيح لها والذي يؤدي لزاماً إلى تقريرات وأحكام مغلوطة بعيدة عن المقاصد الشرعية والحق المُراد بنصوص الوحيين.
في جانب آخر تظهر أنماط فكرية ومنهجية مؤسسة على الذهاب مع معطيات السياسة العصرية العقلية في غالب أحوالها ، والتي أحكمتها الدول الغربية في قوانينها ودساتيرها استناداً لمبادئ الديموقراطية وحفظ ( الحريات الفردية ! ) ، ومنع الاستبداد والفساد و نقد الممارسات السياسية للحكومات والأنظمة الحاكمة ، ومن ثم ظهور فكرة المعارضة الحزبية الدائمة أو المعارضة للمعارضة ! .
بحث هذا المذهب وبيان فساده لا يتسع له المقام ، ويحتاج لتفصيل وشرح تأصيلي علمي طويل ، ولكن الذي ينبغي معرفته - هنا - هو أن شرائع غيرنا ليس شرعاّ لنا وأن الإسلام جاء لنا في صريح الكتاب والسنة المطهرة بأصول عظيمة لا تحفظ الحريات الفردية المشروعة فحسب ، ولكن - أبضاً - تمنع الفساد وأهله وتقيم الأحكام الدينية بمقاصدها الشرعية الصحيحة ، ومن أهمها اصل الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ميز هذه الأمة بكونه سبب خيريتها ، فقال الله - تعالى - :
( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) [آل عمران:110].
وقد جعل الإسلام مع هذا الأصل - على حد سواء - ضوابط محكمة وشروطاً ووسائل شرعية تضمن له سلامة التطبيق العملي ، وكذلك تقيه مزالق الانحراف نحو سبل مسلكية تُفسد غايته ومقاصده ، أو تُحدث في الأمة الإسلامية من المفاسد ما هو أكبر من المصالح المرجوة منه أو تختلط مسائله على الناس فيكون التفرق بينهم وربما التنازع والتصارع الذي يمقته الله عز وجل .
من هنا بدأ طريق عامة الفتن التي حاقت ببلاد المسلمين قديما وحديثاً وأعملت فيما بينهم القتل وسفك الدماء والتشريد ، فإن أقواما - كالخوارج مثلاً - سعوا إلى حكم الله والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكنهم وقعوا في التأويل الفاسد أولاً ثم القيام العملي دون النظر في العواقب أو الموازنة بين المصالح والمفاسد بميزان الشريعة وتقريرات أئمة العلم ، فوقع السيف والظلم وسفكت الدماء وضيعت الحقوق وتسلط العدو - بسببهم - على بلاد الإسلام .
وطائفة أخرى - من أبناء جلدتنا أيضاً - نزعت إلى المحاكاة الحرفية للنظم السياسية الغريبة والتحزب المعارض للحكام والحكومات من منطلق محاربة الاستبداد وقمع الفساد أو المطالبة بالحقوق والحريات بأساليب يدعون سلميتها كالمظاهرات والإضرابات والعصيان والتي كثيراً ما تتحول سريعاً - لأسباب عديدة - إلى مواجهات وعنف وحرق وتخريب يوشك أن يقدح نار الاحتراب بين الأخوة ، وما الذي حصل في بعض الدول العربية إلا شاهد على خطورة هذا المنهج بيننا ، وكيف كان له أعظم الأثر في تزهيد كثير من الناس بعلوم الشريعة وأصولها الفقهية - أو الاستهانة بها ورفضها - والتي تحفظ أمن المسلمين وقوة أوطانهم ، وتحقن دماءهم المعظمة في دين الله تعالى ، فلا تكون رخيصة مستباحة عند أهل الظلم والطغيان .
خاتمة :
يقول ابن تيمية - رحمه الله - : " الْفِتْنَةُ إِذَا وَقَعَتْ عَجَزَ الْعُقَلَاءُ فِيهَا عَنْ دَفْعِ السُّفَهَاءِ.. ، وَهَذَا شَأْنُ الْفِتَنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال من الآية:25].
وَإِذَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ التَّلَوُّثِ بِهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ الله تعالى" اهـ
فاحذر لدينك ولنفسك واتق الله في بلدك
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
31-12-2022 01:10 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |