18-01-2023 12:17 PM
بقلم : الدكتور المهندس أحمد الحسبان
في طريقي لمكان عملي، يأخذني الدرب الغربي عبر عدة قرى واربع محافظات، المفرق جرش الزرقاء عمان، وعلى اطراف القرى تصادفني عدة مجموعات من الكلاب يومياً، وحالما تقترب سيارتي منها تبدأ بالنباح والهجوم عليها وبشكل مرعب، مزعجةٌ هي لكنها غير مؤثرة ولا مخيفة كوني متخندق كالجبان خلف المقود، لا أجرؤ على التوقف حتى، الى ان قررت يوماً ان اصبح شجاعاً، واترجل من سيارتي لأواجه احدى تلك المجموعات الكلبية، آخذا بالمقولة (لا نامت أعين الجبناء) أو (من العجز ان تموت جبانا) وغيرها من محفزات الفيس بوك الدونكشوتية.
كان الوقت بعيد الفجر، ولم تصلني امدادات اشعة الشمس بعد، لكني قررت التوقف والنزول، وبكل رباطة جأش، الموقع كان مخيفا كذلك؛ مثلت التقاء طريق المدور الخلفي مع شارع
جرش الزرقاء، حيث لا أحد هناك يسمع نداءً او استغاثة، اعلم انه كان قرارا خاطئا بزمانه ومكانه، لكن المراجل فطنة، والعقل غائب، وهناك متسعٌ من الوقت قبل محاضرة الثامنة والنصف لبعض اللهو مع ذلك الكلب، كان كبير الرأس قوي العضلات نشيط النباح معتداً بسرعته. تماسكت بما تبقى من ادرينالين في قدميّ وترجلت جانب الباب على وجل، وكان الباب موارباً لا هو بالمفتوح ولا بالمغلق، تحسباً لأي طارئ، وحدّقت في عينيه شزراً، ويعلم الله كم من الخوف كنت احمل على كاهليّ، لكن الكلبَ توقف عن النباح عندما رآني اتصرف بشجاعة، من باب (اذا فقدت الايمان فتصرف وكأنك مؤمن)، ثم توقف عن الجري تجاهي كذلك، تفصله عني بضع خطوات، وبضع ثواني، تبادلنا فيها نظرات التحدي، ثم انصرف، وانصرفت معه مجموعته التي كان يقودها، شعرت وقتها بالنصر المؤزر، واكملت طريقي منشياً النصر على خوفي قبل النصر على الكلب.
وفي اليوم التالي مررت من نفس المكان ولم ينبح ولم يجري تجاهي، ومررت بسلام وبدون ازعاجه المعهود. يبدو انه احتفظ بذاكرته شكل سيارتي ولونها وقرر عدم تكرار التعرض لي، لأني لاحظته يتعرض لباقي السيارات التي كانت تتزامن مع مروري غير ذاك اليوم الفجري، لكنه الآن لا يجرؤ ان يتعرض لي، فأرمقه بابتسامة زهوٍ، وامضي في طريقي .
قررت ان اكرر ذات الفعل مع مجموعة اخرى عند مثلث بيرين، ونجحت الفكرة، وثالثة عند مدخل قرية دحل، ونحجت كذلك، لكن مجموعات الكلاب هناك كثيرة، وليس لدي ما يكفي من وقت او شجاعة او تحدي لكل الكلاب التي في طريقي، فقررت ان تسير قافلتي تاركاً كلاب الطريق تنبح كما تشاء. ولكن السؤال يبقى هل كل الكلاب ضالة، ام ان بعضها غير ضال؟
بحثت في موضوع الكلاب قليلا، فقرأت انها ذكرت في القرآن ست مرات، اكثر الحيوانات ذكرا فيه، والحيوانات ذكرت في ٢٠٠ اية منه، بل ان ست سور منه تحمل اسماء حيوانات: البقرة، النحل، النمل، العنكبوت، الفيل، والانعام. الا ان اكثرها ذكر مرتين على الاكثر، الا الكلب ذكر ٦ مرات بثلاث سور، وفي كل مرة ذكر بحال مختلف عن غيرها، ففي الموضع الاول ذكر الكلبُ وفياً لأصحاب الكهف، يحرسهم للناظر ونائم كنومتهم (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد)، رابعهم كلبهم، سادسهم كلبهم، وثامنهم كلبهم. ذكر ذات الكلب ٤ مرات في هذا الموضع وفيه صفة الحراسة والوفاء لاصحاب الكهف، اذن هو غير ضال هنا، حتى وهو نائم، ونومته باسط ذراعيه كأنه يحرسهم، بينما هم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال، وذلك لعدم وجود غدة تمنع تعفن أجسادهم كالتي موجودة في اسفل بطن الكلب.
وفي الموضع الثاني ذكر لغايات الصيد، (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ) سورة المائدة، وكلب الصيد وفي وصديق للصيادين، ويعرف فريسته التي وقعت من صيدهم، فهو غير ضال كذلك في هذا الموضغ. أما في الموضع الثالث والاخير، بقوله تعالى (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا) سورة الاعراف، وهنا فقط ضُرب مثلاً للضلالة، فكل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء وعطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة، وحال المرض وحال الصحة، وحال الري وحال العطش، فضربه الله مثلاً لمن كذَّب بآياته، فقال: إن وعظته ضَلَّ وإن تركته ضَلَّ، فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث.
مقصد القول؛ ليست كل الكلاب ضالة، فمنها الضال ومنها غير ذلك، وليست كل الحيوانات ضارة، فمنها من خلق لغايات مفيدة للانسان كأن يحمل عليها او يركبها او يأكلها او تحرسه أو تجلب صيده، ومنها غير ذلك، ولو لم يكن فيها صفات حميدة لما ضربت امثالا بالقرآن - محفوظا بالسطور والصدور ليوم القيامة، نأخذ ما حسن منها ونترك ما ساء ونهي عنه. فما هي الا امم امثالنا، وربما فيها عشائر وشيوخ، وسادة وعبيد، صالح وطالح، اهوج واعدل، نباح وصامت، يجري لغاية مفيدة او يجري لازعاج وضرر واخافة.
خلاصةُ القول؛ اعود لكلب المثلث المحترم، لم يعد يزعجني بعد تلك الوقفة الصادمة امامه، ولم يعد يلهث للجري خلف سيارتي، كان - هو ومن خلفه - كلاباً غيرَ ضالة، ولربما اهتدى بعد ردع خطير كاد ان يودي بي للهلاك. هناك كلابا تحترم - ولكن فقط بعد نهرٍ او تلقيم، فيما عدا ذلك؛ تبقى الكلاب كلاباً، تنبح بينما قوافل الطريق تسير، فهي على الحالين تلهث، تلهث عطشى كما تلهث مرتوية.
عندما تصمت أوهام الكلاب - تبقى تلهث.
الدكتور المهندس أحمد الحسبان
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
18-01-2023 12:17 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |