22-01-2023 08:25 AM
سرايا - صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، مجموعة قصص بعنوان “عيون الغرقى”، للشاعر والقاص والإعلامي حسين جلعاد، حيث يرى جلعاد في هذه المجموعة “أن ثمة خسارة ما، دون أن نعرف ما الذي فقد بالضبط، وأن هذه الحكايات ليست إلا جوقة من المراثي تترنح في أرض صغيرة من التجارب والذكريات، تلك التي كانت قريبة ثم أصبحت نائية”.
من الصفحة الأولى، يهدي الشاعر كتابه إلى مدينته، دون أن يذكر اسمها، نعرف من الوقائع التي يدور معظمها في إربد، حيث تابع جلعاد دراسته الجامعية، أنها المدينة موضع الإهداء. ولكن قد يسأل القارئ نفسه: لم يهدي الكاتب مدينة وليس إنسانًا؟ وكأن عدنان أيوب في “نعناع المصاطب” يرد على هذا السؤال: “إربد التي أغوته يوماً بعشق المدائن فوجد نفسه فيما بعد متورطاً بضجيج الإسمنت والمدن الكبرى. وهو لم يدرك مدى تعلقه بإربد إلا حين غادرها، تلك التي يألفها الجميع بسرعة – أو يظنون ذلك – بيد أنها تستعصي على الإتيان بتلك المجانية والتسطيح وحدهم من تشكلوا في الأزقة والشوارع يعرفون أي أمان هي جدرانها. وهم وحدهم من يعرفون أي ذاكرة لقطط الليل”.
ثمة هاجس واضح بالمكان والزمان يظهر في التفاصيل كلها، بدءًا من عناوين القصص التي إما أن تشير إلى زمان (المساء والخريف) أو إلى مكان (الإسفلت والبيت والبحر). فعناوين جلعاد محملة بالمعاني سواء أكانت في محاولة موثقة الماضي أو ترتيبه في تتابع ما ووضع منطق رتمي لتذكره، أو بالاستخدام القصدي للغة تعيدنا إلى عناوين الكتب الرومانسية القديمة، دون أن ينسحب ذلك على متن القصص نفسها.
يمثل عدنان أيوب شخصية المثقف الفنان التشكيلي الذي يعيش في أزمة لا أحد يعرف حجمها ولا سببها، إنها الشخصية التي تمتد مشاعرها وأفكارها إلى ما وراء الخسائر الملموسة والتجريبية للكائن الفردي وتصير إحساسًا بالانحدار الثقافي والتوق إلى الماضي. يتصرف عدنان بعصبية ويعترض على كل شيء، بينما يعيش محاكمة مستمرة على طريقة بطل كافكا، الفرق أنه هو من يجر نفسه والآخرين إلى هذه المحاكمة صديقه نزار وحبيبته جيهان وعمله بل ووطنه، يقول: “ربما من رابع المستحيلات أن يكون للإنسان وطنا”، ثم يتخيل نفسه يتسلق إشارة ضوئية ويصيح ملقبًا عمان بـ “أثينا المغفلة”.
مقابل ذلك الحب الكبير لإربد ثمة نفور من عمان، وإشارات مستمرة إلى الزمان نصل إليها من خلال أسماء الأمكنة التي يذكرها الكاتب بشكل مقصود لنفهم الإحباط والانكسار الذي يشير إليه زمن الراوي، كلمات مثل “نلتقي في الفينيق”، أو “الفاروقي” تشير إلى أننا في عمان أواخر التسعينيات بعد حرب الخليج، وبعد اتفاقية أوسلو التي تظهر كخلفية للحدث في قصة “كائن سماوي”. في هذه الأخيرة نتعرف إلى هديل وريم وحسام، ويبدو أن الاستعداد للمظاهرات في الجامعة ضد الاتفاقية يقود إلى اعتقال الطلاب المنظمين وعلى رأسهم حسام.
لا يمنع الحضور الكبير للشخصية المثقفة المحبطة والسوداوية من توازن دقيق مع الفرح اليافع، فخطاب الخيبة المنتشر في المجموعة لا يظهر فقط في التعبيرات السوداوية الصريحة ولا في تمثيلات الحزن المستترة وحسب، بل أيضًا في مغامرة المراهقين البدويين خضير وصقر في قرية سيدي وقاص.
وهذه الروح تظهر حتى في قصة “الإسفلت والمطر”، حيث الطفل بائع العلكة يريد الدخول إلى الجامعة ليفتش في حاويتها عن طعام، وكذلك في قصة “بويا” حيث الطفل ماسح الأحذية يحلم بالزبائن في الجانب الثري من المدينة بعيدًا عن قاعها. لا يحاول حسين جلعاد تصوير هذه الشخصيات كبائسة أو منكسرة بل إنه بخلاف ذلك يكتفي بأن يقدمها في لحظتها المغامرة أو كشاهدة على موقف يبرهن لها على سخرية الحياة.
يتنازع كل شخصيات جلعاد عالمان، الطفولة والرشد، المراهقة والنضج، الفقر والثراء، المثقف الذي يشعر أن العالم المحيط به ليس إلا مجموعة من الأصوات النشاز، ثم تلك الشخصيات المحاذية للمثقف أصدقاؤه معارفه الجرسون الذي اعتاد عليه.. إلخ.
بعد 15 عامًا من الغياب عن النشر، يأتي حسين جلعاد بقصصه العشرة، إنها حكايات من الحنين وعنه، كل شخصياتها في مكان يبدو الآن سحيقًا من الماضي، وتنظر إلينا بعيون كلها غرق.
يذكر أن حسين جلعاد من مواليد العام 1970، وهو شاعر وصحفي ويعمل مديرا للتحرير في موقع الجزيرة نت، وهو عضو في رابطة الكتاب الأردنيين، وشغل عضوية هيئتها الإدارية (2004/2005) وهو عضو اتحاد الكتاب والأدباء العرب، صدر له في مجال الشعر “العالي يُصْلَب دائماً”، “كما يخسر الأنبياء”، وفي مجال فكرية وسياسية “الخرافة والبندقية: أثر العولمة في الفكر السياسي الصهيوني، 1999 ،” المسألة الكردية وحزب العمال الكردستاني 1997″، وفي مجال القص صدر له “دو: أسرار معلنة، ري، مي”، “فا: الإسفلت والمطر”، و”صول: كائن سماوي”، و”لا”، “سي: أربعة جدران وباب”، و”المساء يطير غربًا”، و”الخريف والشبابيك القديمة” (وهي قصة في ستة مشاهد: نعناع المصاطب، خمول متحرك، قال الحلم له، نزار وحده، شبابيك قديمة وآخر اللوحات)، وآخرها “دو: والبحر ينام أيضًا”.