28-01-2023 10:37 AM
بقلم : الدكتور عماد نعامنة
طالعتنا وزارة التربية والتعليم مؤخّرًا بقرار يبيح لطلبة الثانوية العامّة استخدام الآلة الحاسبة في امتحان شهادة الثانوية العامّة، فانقسم المهتمّون حياله قسمين: قسم تبسّم ضاجكًا، وآخر اكفهرّ عابسًا، ولعلّي في مقالي هذا أنحاز إلى فئة المتفائلين فأرى في هذا القرار خيرًا وحكمةً؛ فالمتأمّل في هذا القرار بعين الحكمة والعدل والرّوية يجد أنّه يتواءم والتّوجّهات العالميّة في تدريس العلوم، وأقصد المباحث العلميّة التي يتطلّب محتواها العلميّ والمهاريّ استخدام الآلة الحاسبة، كالفيزياء مثلًا، فالأمر ليس حكرًا على مبحث الرّياضيّات، كما تبادر إلى أذهان كثيرين من الطلبة أو أولياء أمورهم. فالتوجّهات العالمية والتطورات التقنيّة تستلزم توظيف آلة العصر في التعليم ومجالات الحياة الأخرى، ولعلّ نظرة عجلى على السلاسل التعليميّة المعتمدة في التدريس في المدارس العالميّة مثل المناهج البريطانيّة (IGCSE / GCSE) تؤكّد أنّ محتواها المعرفيّ والمهاريّ بُني على أساس استخدام الآلة الحاسبة، ومثلها الكتب المدرسيّة العلميّة التي أصدرها المركز الوطنيّ لتطوير المناهج للصفوف المختلفة الّتي أفادت من سلسلة (كولنز) العالميّة، بوصفها إحدى المراجع والمصادر الموثوقة، وليس المصدر الوحيد.
وهذا بطبيعة الحال يتماشى والنظرية البنائيّة في تأليف الكتب المدرسيّة وتطويرها، ففي هذا الصدد يرى التربويّون المتخصّصون في تصميم المناهج والكتب العلميّة أنّ تعليم العمليات الحسابية الأساسيّة لا ينبغي أن يتعدّى الصف السادس، بمعنى أنّ تعليمها يكون تقليديّا أيْ من دون استخدام الآلات الحاسبة، مع التذكير بوجوب عدم استخدام الآلات الحاسبة في الصفوف الستّة الأولى على أبعد تقدير؛ لما لذلك من محاذير تعليميّة تربويًّا، أمّا بعد ذلك فينبغي أن يتزامن استخدام الآلة الحاسبة مع تدريس تلك الموادّ التي تقتضي استخدامها، ذلك أنّ الدراسات والأبحاث العلميّة تؤكّد أنّ استخدامها يكون من قبيل إجراء العمليات الحسابية الرّتيبة لا الأساسيّة.
إذًا، بعد تمكُّن الطلبة من العمليّات الحسابيّة الأساسيّة بأسلوب تقليديّ لا آليّ يغدو من العبث أنْ يفني الطلبة ومعلّموهم وقتهم في إجراء العمليّات الحسابيّة الرتيبة يدويًّا، ففي ذلك إهدار للوقت واستنزاف للجهد وإرهاق للفِكْر في عمليّات يمكن أنْ تجريها تقنيات الثورة الرقميّة التي أصبحت جزءًا لا يتجّزأ من مُكوِّنات الحياة، ناهيك عن إتاحة وقت أطول للتركيز على المفاهيم الرياضيّة والتفكير العلميّ في خطوات حلّ المسألة، ومن ثمّ سيخبو فتيل الأصوات التي تتوجّس خيفة من عدم كفاية الحصص المقرّرة مُستصرِخةً حاجة الكتاب المدرسيّ إلى مزيد من الحصص لتغطية المادة العلميّة بفهم ووعي كافيين.
إنّ قرار إتاحة المجال للطلبة باستخدام الآلة الحاسبة في التعليم – تعليمًا وتقييمًا - ينبغي أن يسير وفق منهجيّة علميّة تسبقها حملة توجيهيّة توعويّة، تبدأ من ضرورة أنْ يُشْفَع هذا القرار بقرار آخر يؤكّد أهمّية أنْ يوظّف المعلمون مع طلبتهم الآلة الحاسبة في المواقف الصفيّة مع السماح بها في الامتحانات المدرسيّة، كما ينبغي على المؤسّسة التعليمية أنْ تتأكّد من أنّ الطلبة يتقنون مهارات استخدام الآلة الحاسبة وفهم رموزها ودلالاتها الرياضيّة، والتّمكّن من العمليات الحسابية الأساسية في سنّ الصفّ السادس على أقلّ تقدير، فمثلًا إذا لم يدرك الطلبة مفهوم الأولويات في إجراء العمليّات الحسابيّة ورموزها في الآلة الحاسبة، فإنّ استخدام الآلة الحاسبة سيصبح وبالًا عليه ويجّر عليه نتائج لا يُحمد عُقباها، فمثلًا لم يُحسن الطلبة التعامل إلكترونيًّا مع مسألة من مثل الحصول على نتيجة (سالب س تربيع) حين تساوي س 3، أي نتيجة سالب 3 تربيع، من دون إدراك مفهوم الأولويّات فإنّ الآلة الحاسبة ستعطيه نتيجة خطأ (9 موجب) في حين أنّ الإجابة الصحيحة (-9 سالب 9).
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لا بدّ من أنّ يسأل الطالب ذاته قبل استخدامه الآلة الحاسبة السؤال الآتي: هل أستخدمها لضعف مهاراتي الحسابيّة وعدم مقدرتي على الوصول إلى النتائج، أم أنّي أستخدمها استثمارًا للوقت والجهد في تعلّم جديد؟ فمن المهمّ أنْ يفعّل الطلبة قدراتهم العقلية ومهاراتهم في إجراء العمليّات الحسابيّة والتمكُّن من مهارة الحساب الذّهني ما سمح لهم الوقت بذلك، لا تكاسلًا ولا اتّكاءً ولا ضعفًا فيهم. فقد يحلّ الطلبة في هذا الحالة المسألة يدويًّا ثم يتأكّد من حلّه إلكترونيًّا، أو العكس، وهذه الحالة بالطّبع ليست ساعة الامتحان الذي تكون دقائقها محسوبًا بدقّة.
ومستصفى القول يكمن في أنّ هذا القرار تدعمه دراسات علمية محكّمة واستطلاعات موثوقة وأبحاث رصينة وتجارب عمليّة ميدانيّة، ويتماشى مع الممارسات العالميّة ومعاييرها في تدريس المواد العلميّة، ولم يأتِ كما تبادر إلى ذهن فئة واهِمة غير قليلة ممّن لم يُحْسِنوا قراءة هذا القرار الوزاريّ حينَ اشتطّوا في تفكيرهم على غير هُدًى وبصيرة، فرأوا فيه تربُّصًا بالطلبة سينال منهم ويوقعهم في شرّ البليّة، وكيْدًا ينتظرهم في ورقة الامتحان ليمطرهم بوابل من الأرقام الرّياضيّة الفلكيّة الخياليّة التي يعجز أولو النُّهى وذوو الحِجا عن تفكيكها.