21-02-2023 08:31 AM
سرايا - سأحاول أن أتتبع معكم مساهمتي الشخصية في التعريف بالأعمال الأدبية لغسان كنفاني في إيطاليا، وقد مر نصف قرن على تلك الأيام التي كنت أتردد فيها على مكتبة معهد الشرق في روما، عندما كنت طالبة، لكنني أتذكر اللحظة التي سمعت فيها الخبر الحزين عن اغتيال الأديب الفلسطيني من أحد المتعاونين لمجلة “الشرق الحديث”، الصادرة عن ذلك المعهد، وهو بيير جيوفاني دونيني، المختص بالتاريخ العربي، الذي أصبح فيما بعد زوجي ورفيق عمري. ولكن بعد ذلك، مرت أعوام لم أسمع عن ذلك الأمر وعن الكاتب شيئا آخر.
في السبعينيات، كان الإنتاج العربي الفكري والإبداعي، المترجم إلى الإيطالية، ضئيلا حدا، وتجاهل المستشرقون في ذلك الوقت الإنتاج الثقافي العربي الحديث تماما، وسرعان ما أدركت أن الغرب قد بنى جدارا غير مرئي بيننا وبينهم، وبيننا وبين العرب الذين نتشارك معهم بحرا مشتركا وربطنا بهم تاريخنا وحضاراتنا. ما يجب أن نلاحظ هنا أن أبرز المثقفين والكتاب الإيطاليين، حتى تلك اللحظة، لعبوا دورا سلبيا من حيث تعريف العالم العربي والعالم الفلسطيني في إيطاليا، فكاتب كـ”بازوليني”، المشهور، مثلا، كان يصف العرب والفلسطينيين كشعب ما يزال يعيش في القدم.
في بداية الثمانينيات، أستاذتي في الجامعة المعروفة بالتزامها السياسي تجاه القضية الفلسطينية، طلبت مني ترجمة رواية فلسطينية، إلى الإيطالية، وأنا تذكرت ذلك الكتاب العظيم، كنفاني، وبمساعدة أصدقاء فلسطينيين كانوا ساكنين آنذاك في روما، تمكنت من الحصول على أعماله الأدبية وقررت أن أترجم الرواية الرائعة “رجال في الشمس”. وهذه كانت أول رواية عربية حديثة تترجم إلى اللغة الإيطالية في ذلك الوقت، في بداية مسيرتي المهنية، ساعدني أصدقاء فلسطينيون على مراجعة ترجمتي، كنت أخشى ألا أنجح في تلك المهمة الصعبة.
ولكن مع مرور الوقت، أصبحت أستمتع بترجمة تلك الرواية، كان أسلوب كنفاني واضحا وضوح الشمس، واختلطت القصة التي كنت أترجمها بمشاعري عندما أصبحت الترجمة جاهزة، في العام 1984، وبعد محاولات فاشلة عدة للعثور على ناشر مستعد لنشر عمل لكاتب فلسطيني، وجدنا دار نشر صغيرة، في جنوب إيطاليا، كانت على استعداد لكسر جدار الصمت الذي خلقه الغرب بشأن القضية الفلسطينية والأدب الفلسطيني. نشرت أخيرا ترجمتي الأولى لـ”رجال في الشمس”.
في تلك الأعوام، كان نشر كتب فلسطينية يعد نشاطا دعائيا سياسيا فقط، ولم يكن لدينا سوى الخيار بقبول هذا الوضع، على أمل أن يتغير هذا المنظور المحدود في يوم ما. كما قلت سابقا، لم يكن البحث عن الناشر سهلا على الإطلاق في تلك الفترة، لا أحد كان يهتم بالأدب العربي، ولم تكن هناك ترجمات خارج النطاق الأكاديمي، وعلاوة على ذلك في تلك الأعوام، كان ينظر إلى فلسطينيين على أنهم فدائيون فحسب، أتذكر جيدا عندما قدمت ترجمتي في مكتبة مشهورة في روما، في العام 1984، على الرغم من مشاركة شخصيات ثقافية بارزة، من بينهم المستعرب الإيطالي الشهير البروفيسور “فرانشيسكو غابرييلي”، شعرنا، نحن المشاركين، وكأننا تحت حصار الشرطة. شيء لا يصدق.
هكذا كان المناخ في ذلك الوقت، هل كنا نقوم بعمل سياسي أم كنا في تقديم رواية؟ ربما كلاهما، لأنه حتما، لا يمكن استقراء أعمال كنفاني بعيدا عن السياق التاريخي للقضية الفلسطينية. ولسوء الحظ، هذا هو الثمن الذي غالبا ما يدفعه جميع الكتاب العظماء الملتزمين بقضية ما، والذين يذكرون بسبب نضالهم السياسي وليس بقيمتهم الأدبية والفنية التي لا مجال للشك فيها.
أنا، بالطبع، شاركت في نشر الوعي السياسي في إيطاليا حول هذه القضية، ولكن فيما يتعلق بأعمال كنفاني الأدبية، كنت مفتونة ومنجذبة، قبل كل شيء بالقيمة الفنية والأدبية لرواية “رجال في الشمس”، لقد ترجمت هذا العمل الأدبي لأنني أردت أن يفهم الإيطاليون أنه في فلسطين كانت هناك قضية، وما تزال لم تحل منذ أعوام عديدة. وفكرت أن هذه الرواية “رجال في الشمس”، قد تساعد القارئ الإيطالي على معرفة ما لم يكن يعرفه، ما فاجأ الجميع، بمن فيهم أنا، هو الاهتمام الواسع الذي تلقاه هذا الكتاب أيضا من الصحافة الإيطالية.
أما بالنسبة إلى الكتاب المترجم، فنفذ العدد المحدود من النسخ المطبوعة في فترة قياسية، وكان هذا تشجيعا كبيرا لدار النشر هذه، لنشر المزيد من الأعمال الفلسطينية، وخاصة الأعمال الأدبية الأخرى لكنفاني، التي أثارت اهتماما كبيرا في الأوساط الأدبية الإيطالية. وهكذا بدأ مصيري كمترجمة، مما قادني إلى أن أصبح أستاذة الأدب العربي المعاصر في الجامعة، لذلك أنا مدينة بنجاحي الشخصي والمهني والأكاديمي لترجمة روايات كنفاني. ولولا هذه التجربة الرائدة في مجال الترجمة، لم أكن لأدخل الجامعة أبدا، ولا أعرف ماذا كنت سأفعل في حياتي، وبفضل ترجمة هذه الرواية الأولى إلى الإيطالية، ولد ونشأ في بلدي اهتمام حقيقي بالإنتاج الأدبي الفلسطيني، بشكل عام، وبالكاتب غسان كنفاني بشكل خاص.
لذلك في العام 1985، قررت أن أترجم أعمالا أخرى لكنفاني، واخترت “عائد إلى حيفا”، و”أم سعد” التي نشرتها لاحقا دور نشر أخرى ضخمة، كما ترجمت أيضا بعض القصص الصغيرة في منشورات أخرى، ومع كل طبعة جديدة حاولت تحسين ترجماتي، لقد ترجمت وقرأت وصححت النسخ الإيطالية مرات عدة، لدرجة أنني شعرت، في بعض الحالات، أنني صرت أعرفها عن ظهر قلب.
في العام 1990، نشرت رواية “رجال في الشمس”، للمرة الثانية مع تقديم الكاتب الصقلي المعروف، “فينتشنزو كونسولو”، الذي كان كاتب عظيما حساسا ومقربا من العرب والفلسطينين، فإنه قارن عمل كنفاني بعمل الكتاب الكبار والعظماء؛ حيث شدد على أسلوب كنفاني الراقي الذي لا يخلو من السخرية المريرة، كما كتب أيضا عن تقنية الفلاش باك السردية، التي استخدمها كنفاني بكثرة، لم تكن ضرورية فقط لإخبارنا بالقصص الشخصية للأبطال، ولكن لإعلامنا بالوضع التاريخي لوطن اسمه فلسطين لم يعد موجودا مثلما كان في الماضي.
في الواقع، أظهر عمل غسان كنفاني للقراء الإيطاليين، ولأول مرة، معنى النكبة وإذلال شعب أجبر على العيش في مخيمات اللاجئين البائسة، أو مشتتا في الشتات، لأنه، كما أخبرنا الكاتب الكبير عبدالرحمن منيف في كثير من الأحيان، “لا يمكن فصل الأدب بشكل عام عن السياسة”، وبالفعل، قد مثلت هذه الترجمات من اللغة العربية في أوروبا أداة فعالة لمعرفة الوضع الاجتماعي والسياسي للعديد من البلدان العربية في القرن الماضي.
وفيما يتعلق برواية “عائد إلى حيفا”، كانت في إيطاليا أيضا بعض العروض المسرحية التي قدمها ممثلون محترفون وأيضا ممثلون غير محترفين “كالطلاب الذين درسوا النص في جامعتنا وقاموا بتمثيله في أماكن عدة. لقد كانت روايات كنفاني درسا جميلا ليس فقط في الأدب ولكن أيضا في التاريخ والحضارة، نجاح هذه الترجمات دفع المستشار الثقافي لبلدية مدينة روما “المدينة التي أسكن فيها”، إلى تنظيم الاجتماعيات التاريخية والأدبية في المدارس الثانوية، حول هذه الأعمال الأدبية، وبالتالي كرست جزءا من عملي بكل فخر وقناعة لتوصيل هذه الروايات إلى العديد من طلاب المدارس.
وفي إحدى هذه المدارس، وجدنا معلمين متحمسين جدا لمشروعنا لدرجة أنهم جعلوا الطلاب يكتبون تلخيصا لروايات كنفاني المترجمة؛ حيث تم نشر هذا التلخيص لاحقا في كتاب، وهكذا قابلنا الأولاد الإيطاليين الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و14 عاما، وتحدثوا عن أم سعد، وصفية، الأستاذ سليم، قيس، أسعد، مروان، خالد وخلدون، كما لو كانوا أبطالهم المفضلين.
الآن، بعد كل هذه الأعوام العديدة التي مرت، أعتقد أن اللقاء مع الطلاب كان من أفضل المشاريع في حياتي، ثم انتهى كل شيء عندما تغير الجو السياسي في بلدية روما، بينما أعتقد أن هذه اللقاءات كانت تمثل بالنسبة لي ملح الحياة، هذه قصة لقائي بأدب غسان كنفاني باختصار. وهو لقاء تكرر مرات عدة في حياتي ولكل مرة غيرني بعمق وجعلني أكتشف شغفي بالترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الإيطالية.
أستطيع أن أقول أخيرا، إنني تمكنت من إنشاء مدرسة من المستعربين والمترجمين، وبعض هؤلاء ورثوا أيضا شغفي بالأدب الفلسطيني ويسيرون على خطاي ويستمرون في الطريق الذي أنشأته وفتحته في إيطاليا، اليوم تغيرت أشياء كثيرة، فدور النشر تنشر الآن الأدب العربي والأدب الفلسطيني بشكل عادي، لكن حتى بعد كل هذه الأعوام من الطبعة الأولى، ما تزال روايات كنفاني موجودة في سوق النشر وما يزال الطلاب يقرأون رواياته كمثال للأدب العربي الحديث.
وبعد كل هذه الأعوام، من الثامن 8 تموز (يوليو) 72، يبقى لنا جميعا نحن الذين عرفنا غسان كنفاني فقط من خلال كتبه، أسف كبير، ومن الصواب أن نسأل أنفسنا أيضا، كما فعل البروفيسور “Gabrieli”، في تقديم ترجمتي لـ”عائد إلى حيفا”، عندما كتب “من يدري ما الروائع الأدبية الأخرى التي كان سيكتبها غسان لو لم تُسلب حياته بهذه الوحشية في سن مبكرة من حياته”.
*أستاذة في جامعة لا سابينزا في روما