01-03-2023 08:00 AM
سرايا - كان قرار تعريب قيادة الجيش العربي الذي اتخذه جلالة الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه، دون النظر إلى نتائجه حين اتخاذه، في ذلك الوقت العصيب، بداية انطلاقة قوية للجيش العربي، على هدي من رسالة الثورة العربية الكبرى.
فقد كان التعريب، قصة وطن، وشجاعة قائد عز نظيرها في حقبة زمنية شهدت محطات مفصلية من عمر المملكة، فالملك الشاب الذي لم يمض على توليه سلطاته الدستورية ثلاث سنوات، تمكن بشجاعته وحكمته وقوة بصيرته، من إعادة ترتيب البيت الأردني، وقد عرف أن الجيش أساس الدولة وسر قوتها.
أدرك جلالة الحسين بن طلال طيب الله ثراه بحسه الوطني والقومي وبعد نظره، أنه يستحيل على الجيش العربي، أن يتطور أو يتقدم ما دامت قيادته من غير أبنائه المخلصين، وأنه لا يمكن أن يحتل مكانة مرموقة عربيا ودوليا، إلا إذا تخلص من قيادته الأجنبية التي لا هم لها ولا شأن في تسليحه وتدريبه وتطوير قدرات منتسبيه، وعمل منذ الساعات الأولى لاعتلائه العرش على التفكير باستبدال القيادة الأجنبية بأخرى عربية، تطوره وتحدثه وتدربه وفق أفضل المعايير الدولية للجيوش المتقدمة، ليكتب أبناءه بعدها، تاريخه المشرف ببطولاتهم وتضحياتهم العظيمة على أرض فلسطين وغيرها من الأرض العربية، وفي شتى بقاع العالم، رسولاً للمحبة والسلام.
ففي أول آذار (مارس) 1956 من يوم الخميس، اتخذ جلالة الملك الحسين، قراره التاريخي بتعريب قيادة الجيش، وإعفاء الجنرال البريطاني كلوب من منصبه، كذلك بقية القيادات البريطانية.
وكان للحسين يرحمه الله، بصماته الواضحة في استكمال القرار السيادي للمملكة عندما قال: “إن الرأي العام كان يجهل أن قضية عزل كلوب من منصبه كانت قضية أردنية تماماً، لأن كلوب كان قائداً عاماً للجيش العربي الأردني، وكان يعمل لحساب حكومتي”.
إن قرار التعريب الذي اتخذه جلالة الملك الحسين، أعطى عبره لأبناء الوطن شرف قيادة الجيش العربي، ويعتبر بمنزلة حجر الأساس لتولي مسؤولية القيادة العسكرية، وخلق قادة من أبناء الوطن المخلصين، ارتقوا لأعلى المناصب، رافعين رايات النصر والعز، وظلت تخفق عالياً.
اتخذ جلالته، القرار القومي التاريخي الجريء بالتعريب، وتخليص الجيش من التَبعية الأجنبية غير آبه بنتائج هذا القرار، بكل شجاعة، وهو الذي نذر نفسه وأبناءه لبناء مجد الأردن وخدمة أمته العربية والإسلامية ونصرة قضاياها، حاملاً رسالته القومية، واضعاً نصب عينيه مصلحة وطنه وشعبه وأمته.
كان التعريب خطوة جريئة، فتحت للأمة آفاقاً رحبة من الانعتاق من التبعية والاستعمار، ويذكر التاريخ أنه في صباح الـ29 شباط (فبراي) 1956 وصل جلالة الملك الحسين إلى الديوان الملكي في ساعة مبكرة، مرتدياً بزته العسكرية، وفي عينيه تأهب وتحفز وتحد للزمن، ليلتقي يومها رئيس الأركان كلوب، فبدأ جلالته حديثه مستوضحاً منه عن رأيه بتعريب قيادة الجيش العربي الأردني، فكان رد كلوب، أن هذه المسألة ليست بالسهولة.
يقول جلالته في كتابه (مهنتي كملك) “ولما كنت خادماً للشعب، فقد كان علي أن أعطي الأردنيين مزيداً من المسؤوليات، وكان واجبي أيضاً أن أقوي ثقتهم بأنفسهم وأن أرسخ في أذهانهم روح الكرامة والكبرياء القومي لتعزز قناعتهم بمستقبل الأردن وبدوره إزاء الوطن العربي الكبير، فالظروف والشروط، كانت ملائمة لإعطائهم مكاناً أكثر أهمية في تدبير وإدارة شؤون بلادهم لا سيما الجيش، ولكن على الرغم من أن كلوب كان قائداً عاماً للجيش، فلم يكن بمقدوره أن ينسى إخلاصه وولاءه لانجلترا، وهذا يفسر سيطرة لندن فيما يختص بشؤوننا العسكرية، وقد طلبت مراراً من الانجليز أن يدربوا مزيداً من الضباط الأردنيين القادرين على الارتقاء إلى الرتب العليا وكان البريطانيون يتجاهلون مطالبي”.
أثارت هذه التراكمات سخط جلالة الملك، وزادت من إصراره على إنهاء خدمات القيادة الانجليزية بأي شكل، فهذا الأمر يجب تحقيقه مهما كلف الثمن وبأقرب وقت وبلا تراجع، فجلالته كان على علم تام بما تخطط له القيادة الانجليزية حول التخلي عن هذا للضباط الأردنيين، ومتى يمكن أن تفكر بهذا الأمر.
وعقد الحسين العزم، فكان القرار، وهو الأمر الذي فكر فيه جلالته طيب الله ثراه منذ كان طالباً، وقرر أن يضع حداً لكلوب وتدخلاته بإنهاء خدماته. إنها الخطوة الجريئة التي اتخذها جلالته، فقابلها الشعب والجيش حباً بحب وولاء بولاء، وأزالت عن الأردنيين هماً كبيراً، معززة ثقتهم بقائدهم الشاب، وسداد رأيه وحكمته وبعد نظره.
سطر جلالته على صفحات التاريخ، خطوة مباركة وجريئة، وقراراً مجلجلاً في الداخل والخارج، ليكون بذلك نهاية المعاناة وولادة المستقبل.
ومع صباح الخميس أول آذار (مارس) 1956 أصدر جلالة الملك الحسين، أمره لرئيس الديوان الملكي، ورغبته بعقد جلسة لمجلس الوزراء، يرأسها بنفسه، ونفذ الأمر الملكي في الحال، لتنتهي جلسة المجلس الملكية بإصدار قرار يحمل الرقم (198)، وفيه تقرر إنهاء خدمة الفريق كلوب من منصب رئاسة أركان حرب الجيش العربي الأردني، وترفيع الزعيم راضي حسن عناب من أبناء الجيش العربي الأردني الى رتبة أمير لواء، وتعيينه في منصب رئاسة الأركان، ليكون أول قائد عسكري أردني، يتسلم قيادة الأركان بعد عزل كلوب.
وفي السابعة والنصف من صباح الجمعة الـ2 من آذار (مارس) 1956، نقلت الإذاعة الأردنية أنباء الخطوة الجريئة لجلالة الملك الحسين، والتي لم يكن يتوقعها أحد، وحمل الأثير صوت الملك الحسين، وهو يحمل البشرى بنبرات قوية واضحة في خطاب قصير هذا نصه “أيها الضباط والجنود البواسل أحييكم أينما كنتم وحيثما وجدتم، ضباطاً وحرساً وجنوداً، وبعد، فقد رأينا نفعاً لجيشنا وخدمة لبلدنا ووطننا أن نجري بعض الإجراءات الضرورية في مناصب الجيش، اتخذناها متكلين على الله العلي القدير ومتوخين مصلحة أمتنا وإعلاء كلمتنا، وإنني آمل فيكم كما هو عهدي بكم النظام والطاعة، وأنت أيها الشعب الوفي، هنيئا لك جيشك المظفر الذي وهب نفسه في سبيل الوطن ونذر روحه لدفع العاديات عنك مستمداً من تاريخنا روح التضحية والفداء ومترسماً نهج الألى في جعل كلمة الله هي العليا، إن ينصركم الله فلا غالب لكم، والسلام عليكم”.
كان قرار الحسين سيادياً بحتاً، وخطوة على المسار الصحيح لاستقلال الأردن من النفوذ الأجنبي، ونقطة تحول هامة في تاريخ العرب الحديث، ودافعاً قوياً للأردن للدفاع عن استقلاله وكرامته وحريته، فأتاح للأردن بسط سيادته السياسية على الدولة ومؤسساتها، وأعاد الهيبة للجيش والأمة بامتلاك حريتها، وصنع قرارها، بعيداً عن التهديدات والضغوطات التي كانت تمارس بحقها، وأعطى الفرصة لأبناء الوطن، بتولي المسؤولية والتدريب على القيادة العسكرية وخلق القادة من أبناء الأردن.
كما أدى التعريب لتوظيف قدراته وإمكانياته لخدمة أمن الوطن، وصون حقوقه والمحافظة على ترابه ومكتسباته، ومكّن صانعه جلالة الملك الحسين، من بناء مؤسسة عسكرية حديثة، امتازت بالانضباط ومشاركة القوات المسلحة بالخطط التنموية، وبناء الوطن والمشاركة الفاعلة لجيشه في رفد مسيرة البناء والعطاء، والمساهمة ببناء قدرات أبنائه، وتأهيلهم في مجالات العمل، ليكونوا بحق كما أرادهم الحسين، ومن أجلهم اتخذ قراره التاريخي.
ساهم الجيش العربي باستقرار كثير من الدول العربية والعالمية، وتمكن من بناء الروابط القوية مع جيوش المنطقة، عبر قوات حفظ السلام، وتبادل الخبرات وفتح مدارس التدريب للصنوف والمعاهد العسكرية العليا التي أهّلت ضباط وأفراد هذا الجيش، ليكونوا في الطليعة دائماً وكما أرادهم الحسين، الذي هو قائدهم الأعلى، وقرة عيونهم وأملهم وصانع مجدهم والرمز لهذه الأمة ولهذا الجيش.
ويمكن القول، إن تعريب قيادة الجيش كان بحق جوهرة زينت جبين كل الأردنيين، وغرست في المجتمع الأردني والأسرة العسكرية، شعاراً مفاده الإيمان بالله ثم الانتماء للوطن والإخلاص والولاء لقيادتنا الهاشمية.
وقد أسس التعريب لدستور شرف عسكري، أصبح رسالة وعنواناً، وهوية تزين صدور النشامى والنشميات الذين أقسموا بالله العظيم على الإخلاص للوطن والملك، والمحافظة على الدستور والقوانين والأنظمة النافذة بشرف وأمانة، وأدركوا منذ صيحة الحسين- يرحمه الله- التي دوت في أرجاء المعمورة أن مهمتهم الأولى هي الدفاع عن الأردن وصون استقلاله، وحماية الشرعية فيه، هاجسهم على الدوام أمنه واستقراره، يبذلون في سبيل حرية وكرامة أهله أرواحهم ودمائهم منسجمين أبداً مع هويتهم العربية والإسلامية.
“سلمت يداك يا حسين”.. صدى القرار كما استقبله أبناء الأمة الأحرار، وعلى خطى جلالة الراحل الكبير الملك الحسين، سار جلالته ومنذ جلوسه على العرش في السابع من حزيران (يونيو) 1999، وظل ملتزماً بنهج والده الملك الحسين، ومنذ ذلك التاريخ وقواتنا المسلحة الأردنية تحظى بالاهتمام الأكبر، من حيث التسليح والتدريب والتأهيل، بحيث شهدت القوات المسلحة التطور الكبير في صنوف الأسلحة المختلفة، ولقي الجيش العربي، جل اهتمامه ورعايته حيث زود بمختلف الأسلحة والأجهزة المتطورة.
إن الجيش العربي وبفضل خطوة الحسين الجريئة، وجهود جلالته العظيمة، استطاع أن يتربع على قمة التميز والاحتراف، فسار بخُطى واثقة وخطط مدروسة، جعلت منه جيشاً منظماً محترفاً منضبطاً، حاز على إعجاب القاصي والداني، فصار موضع احترام وتقدير وهيبة، تتحدث عنه مراكز الدراسات والأبحاث في مجالات الدفاع والأمن في العالم، ما يجعلنا نفخر بإنجازاته منذ تعريب قيادته وإلى هذه اللحظة التي وصل فيها الجيش العربي في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني، إلى مصاف الجيوش المتقدمة، إعداداً وتسليحاً ليتناسب ذلك مع طبيعة التهديد أيّاً كان مصدره ومستواه وحجمه.
وشهد الجيش العربي في عهد جلالته، إعادة هيكلة لمختلف صنوفه، ومراجعة استراتيجية شاملة للارتقاء بمستوى الأداء ومواجهة الظروف والاحتمالات والتحديات والتهديدات والمتغيرات التي يشهدها العالم من حولنا، ولتكون القوات المسلحة، جيشاً إلكترونياً وديناميكياً متطوراً، وجيشاً عصرياً مرناً وقادراً على استيعاب كل جديد في مجال العلوم العسكرية وفنون القتال والتدريب وأعلى مستويات التأهيل، وفتح المزيد من علاقات التعاون المشترك مع جيوش العالم من حيث التمارين المشتركة والتحالفات الدولية ضد التطرف والإرهاب وتعزيز قدرات الجيش العربي في مجالات التصنيع والتطوير والتحديث وفتح مراكز ريادية في مجالات التدريب والتعليم والتأهيل للوصول إلى معاني الاحتراف والتميز في كل ما يؤديه ويرنو للوصول إليه لتتناسب مع المسؤوليات الملقاة على عاتقه ولتواكب هذه القوات كل جديد في مجال الإعداد والتدريب حتى غدت قواتنا المسلحة نموذجاً يُحتذى في التضحية والإقدام والبذل والعطاء.
وانسجاماً مع الدور القومي للقوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي، فقد سلم جلالة الملك عبدالله الثاني في التاسع من حزيران من عام 2015 الراية الهاشمية للقوات المسلحة الأردنية، لتنضم هذه الراية المجيدة إلى رايات وأعلام القوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي، وذلك خلال مراسم عسكرية مهيبة في ساحة قصر الحسينية.
وتعتبر الراية برمزيتها الهاشمية ودلالتها الدينية والتاريخية والعسكرية الامتداد الطبيعي لراية الثورة العربية الكبرى التي احتضنت ألوان رايات الحضارة الإسلامية والعلم الأردني وأعلام ورايات الجيش العربي، الحافلة بتاريخ عريق يربط الحاضر بالماضي وتتوارثه الأجيال رمزاً للحياة والسيادة والاستقلال، وتجسيداً للحرية والشجاعة والفروسية، ولتكون هذه الراية عنوان مجد وكبرياء، يحملها أبناء الجيش العربي المصطفوي في ساحات الوغى، مثلما حملوا المبادئ السامية لرسالة الإسلام والثورة العربية الكبرى جيلاً بعد جيل، خدمة للوطن والتزاماً بالتاريخ وحفاظاً على الشرعية والإنجاز وتحقيقاً لمعاني التعريب التي أرادها الحسين يرحمه الله.
وسلّم جلالة الملك عبدالله الثاني علم جلالة القائد الأعلى كأعلى درجة تكريم عسكري في القوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي، لعدد من تشكيلات ووحدات ومديريات الجيش العربي، تكريماً لما يبديه منتسبو هذه الوحدات من شجاعة وما يبذلونه من تضحيات وخدمات للوطن والمواطن.
وانطلاقاً من رسالة الجيش العربي الهاشمية الأصيلة، كانت وقفة الجار مع الجار، واستقبلت قوات حرس الحدود في السنوات الماضية وعبر حدود المملكة اللاجئين الذين عبروا حدودها الشرقية والشمالية من الأطفال والشيوخ والنساء والشباب، ولم يتوان الجندي الأردني بأخلاقه النبيلة وصفاته الجليلة عن أن يمسح بيديه دموع طفل، وإنقاذ عاجز، ومساعدة شيخ طاعن في السن، ونساء أعياهن المسير والتعب والمرض والجراح، وهنا سجل التاريخ لنشامى الجيش العربي موقفاً إنسانياً يضاف إلى رصيد سمعتهم وطيب منبتهم ورجولتهم، وولائهم لقيادتهم الهاشمية، ولن ينسى العالم تلك الصور التي التقطتها عدسات كاميرات وسائل الإعلام والجندي الأردني يدفع بنفسه ودمه لينقذ طفلاً أو رجلاً أو امرأة.
إن أبناء القوات المسلحة الأردنية وهم يتفيأون ظلال ذكرى تعريب قيادة الجيش العربي، يبتهلون إلى المولى عز وجل أن يشمل جلالة الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه بواسع رحمته ورضوانه، وسيذكرون دائماً صاحب القرار الشجاع والخطوة الجريئة التي كان لها كبير الأثر في بناء الجيش المصطفوي، ويعاهدون قائده الأعلى جلالة الملك عبدالله الثاني على أن يبقوا درع الأمة وأملها في الدفاع عن الحق وصون الكرامة، يعملون بكل ما أوتوا من قوة وعزم في سبيل الحفاظ على أمن واستقرار الوطن جنوداً أوفياء ورجالاً أقوياء، يسيرون على النهج ذاته والطريق ذاته، سائلين العلي القدير أن يحفظ جلالة القائد الأعلى سنداً وذخراً للأمتين العربية والإسلامية، وأن يديم على الوطن نعمة الأمن والأمان، إنه نعم المولى ونعم النصير.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
01-03-2023 08:00 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |