10-03-2023 12:07 PM
سرايا - حرص الكثيرون من الرحالة والمستشرقين الغربيين والأجانب الذين زاروا مصر وعملوا بها وأقاموا بين ربوعها على توثيق مظاهر الحياة اليومية للمصريين، ورسموا من خلال كتاباتهم ورسومهم عمائرها وشوارعها وحاراتها ودروبها، وعادات الناس وتقاليدهم وملابسهم واحتفالاتهم.
وكارل بنيامين كلونتسنغر، الطبيب الألماني الذي أمضى 18 شهرا في تعلم اللغة العربية بالقاهرة قبل أن ينتقل منها ليعمل طبيبا بمدينة القصير المطلة على سواحل البحر الأحمر، خلال النصف الثاني من القرن الـ19، واحد من هؤلاء الذين نقلوا لنا الكثير من مظاهر الحياة في مصر قبل قرابة 150 عاما مضت.
جال كلونتسنغر في مدن صعيد مصر وما قابلها من مدن مصرية مطلة على شواطئ البحر الأحمر، وامتدت جولاته إلى المناطق الصحراوية المتاخمة لتلك المدن.
مشاهدات في الصعيد والصحراء
وقد جمع الطبيب الألماني مشاهداته في صعيد مصر والصحراء والبحر الأحمر في كتاب صدر في طبعتين متتاليتين متطابقتين في النص، في عامين متتاليين: الأولى في برلين بالألمانية سنة 1877، تحت عنوان مختصر هو "مشاهد من صعيد مصر والصحراء والبحر الأحمر"، والأخرى في لندن بالإنجليزية سنة 1878، وعنوانها مطول مفصل هو "صعيد مصر: أهله ومنتجاته. تقرير وصفي عن عادات أهل وادي النيل والصحراء وساحل البحر الأحمر وتقاليدهم وخرافاتهم، مع صور وصفية عن التاريخ الطبيعي والجيولوجيا".
وأما النسخة العربية، فقد صدرت حديثا عن دار "ميتا بوك" للطباعة والنشر، وترجمها إلى العربية الدكتور محمد عبد الغني، وهو طبيب وأديب ومترجم مصري، يعيش في صعيد مصر.
وقد جاء الكتاب في 7 فصول حملت العناوين التالية: "4 أيام في مدينة إقليمية"، و"السفر في البر والنهر"، و"أيام العمل والعطلات والأفراح والأتراح"، و"الصحراء"، و"عن البحر الأحمر"، و"كنوز البحر الأحمر الطبيعية"، و"الاعتقادات والخرافات الشائعة".
وحول الكتاب ومؤلفه، يقول المترجم الدكتور محمد عبد الغني إن الألماني كارل بنيامين كلونتسنغر عالم موسوعي من علماء القرن الـ19، وإن القارئ لكتابه "مشاهد من صعيد مصر والصحراء والبحر الأحمر"، سوف يتصور بمجرد النظر لغلاف الكتاب، أن حديث مؤلفه سوف يقتصر على وصف عادات "المصريين المحدثين" في الصعيد وحياتهم فحسب، على نحو ما فعله من قبل إدوارد وليم لين، لكن كلونتسنغر يتنقل بنا في ثنايا الفصول السبعة لكتابه بين علوم شتى يكاد يتقنها جميعا.
فتارة يتقمص شخصية الأنثروبولوجي، فيتفحص أهل الصعيد وسماتهم الشكلية وعاداتهم ومعتقداتهم، ثم يصف منازلهم معززا وصفه بمسقط أفقي متقن على غرار ما يرسمه المهندسون، ثم يتحدث كعالم نبات متبحر، قبل أن ينعطف بنا على شيء من الجيولوجيا، ثم شيء من علم الأرصاد الجوية، ثم يستخدم أسماء الطبقات الأوبرالية والأوزان الشعرية في عدة مواضع كاشفا عن معارفه الموسيقية والشعرية، ويعرج بنا إلى وصف الأجرام السماوية ومواقع النجوم كأي فلكي محنك، ذاكرا أسماءها العربية واللاتينية.
معطف الطبيب
وفجأة يتذكر أنه جاء إلى هذه البلاد طبيبا في الأساس، فيرتدي معطف الطبيب قليلا، ثم يسارع فيخلعه ليصف حيوانات الصحراء وصفا ينمُّ عن دراسة معمَّقة، لكنه في غضون ذلك لا ينسى علم البحار، شغفه الأول وسبب خلود ذِكره في الأوساط العلمية حتى اليوم، فيخصص فصلا كاملا لأسماك البحر الأحمر وأحيائه بمختلف مواقعها على سُلّم المملكة الحيوانية.
ويختتم كتابه بفصل كامل عن الاعتقادات والخرافات التي كانت شائعة بين المصريين في زمانه، فيتحدث عن الأعمال السفلية والزار (طقوس شعبية لطرد العفاريت) وغيرها من الخرافات مثل تحضير الأرواح وحجاب المحبة وفتح المندل، وعن اعتقاد المصريين في الحسد والجن والقرينة، ويصف كل ذلك وصف من رأى، لا مَن سمع.
وفي مقدمة كتابه، يقول كلونتسنغر "هائل هو فيض الكتابات التي تدفقت منذ القِدم، عن أرض النيل المقدس الرائعة، ومع ذلك فنحن أبعد ما نكون عن التباهي بمعرفة مصر معرفة تامة".
ووفق مترجم الكتاب، فإن كلونتسنغر يختلف عن أغلب من كتبوا عن صعيد مصر من الغربيين في زمانه، فهو يكاد يكون الأوروبي الوحيد في زمانه الذي قصر دراسته على الصعيد ولم يجلس في برج عاجي في القاهرة كاتبا عن أهل العاصمة وما حولها، أو يسترخ تحت شمس الصعيد في "دهبية" في النيل كاتبا -من بعيد- عن فلاحين يشاهدهم من بعيد على ضفاف النيل، أو يقتصر في "مشاهداته" على وصف الحجر بدون البشر، ووصف أطلال طيبة بدون وصف أهلها، فهكذا كانت معظم كتابات الرحالة الأوروبيين عن الصعيد آنذاك.
دراسة ميدانية لصعيد مصر
لكن وفق مقدمة المترجم، فإن دراسة "كلونتسنغر" كانت دراسة ميدانية معمقة، فقد اندمج بين الناس، وتكلم لغتهم كواحد منهم، فعرف عاداتهم وتقاليدهم وخرافاتهم وآلامهم وآمالهم، وأكل على موائدهم.
وقد أدرك أهمية ذلك فكتب في مقدمة كتابه "لا يتسنى الحصول على الملاحظات والأحكام الدقيقة بنظرة عامة، بل بحياة ألفة تُعاش مع الأهالي كواحد منهم"، وكان ينظر في ذلك كله -أو لنقل في معظمه- بعين العالِم الموضوعي، لا بعين الأوروبي المتفوق الذي يدرس "عينة" من أجلاف الشرق، كما ساد في كتابات الغربيين عن الشرق وعن أفريقيا في زمانه.