19-03-2023 02:44 PM
بقلم : م. أنس معابرة
يعيش الإنسان حياته بين السعادة والحزن، بين النجاح والإخفاق، بين الحلو والمر، بين الغنى والفقر، وبين الشدة واللين، فتراه أحياناً سعيداً لا تكاد قدماه تمس الأرض لشدة فرحه، وأحياناً أخرى؛ يمكنك أن ترى عُبوس وجهه من مسافة بعيدة.
ويتفق الجميع تقريباً على أن الحياة صعبة وتحتاج الى جهاد ومكابدة، فلطالما واجهتك المصاعب والمشقّات، وتكبدتَ المعاناة في مواجهتاها والتغلُّب عليها، ويقول الله عز وجل في كتابه العزيز: "لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ".
وهنا تكمن قدرة الإنسان على التكيُّف مع تقلُّبات الحياة وأحوالها المختلفة، فالبعض ينتقل بسهولة من حالة الى أخرى، يتقبل وفاة أحد أقاربه بإيمان وصبر واحتساب، وتجده بعد فترة من ذلك مبتسماً فرحاً بزواج أحد أبناءه أو أقاربه أو عند نجاح أحدهم أو تخرجه من الجامعة.
البعض الآخر من الناس عاجزون عن السيطرة على أحوالهم، لا يستطيعون إخراج أنفسهم من بئر الحزن والكآبة الذي دخلوه بإرادتهم، وهم يرفضون الخروج منه، وكأنهم أدمنوه، لدرجة أن هرمونات الحزن تسري في دمهم بشكل متواصل، ويشعرون باللذة لتلك الهرمونات التي تقتلهم ببطيء.
تلك الفئة من الناس التي تهوى جلد الذات وتقريعها، وتخشى أن تُدخل الفرح والبهجة الى قلوبها، تنطوي على نفسها وقد غلّفت نفسها بشرنقة الأحزان من حولها، وأقفلت جميع الأبواب والنوافذ أمام أيّ شعاع غادر للسعادة قد يتسلّل من هنا أو هناك.
يتناسونَ لحظات السعادة التي مرت عليهم وكأنها وميض برق لم يلبث في سماء حياتهم إلا قليلاً، بينما يزخرفون لحظات الحزن ويقلبونها كل يوم، ويتأملون معاناتهم في تلك اللحظات الماضية من تاريخهم، ويسعدون بتلك الذكريات المؤلمة التي مروا بها كجزء من تقاليد الحياة الإعتيادية كما أسلفتْ.
لا أدري ما هو سر تعلّق البعض بالماضي المؤلم الحزين، بعد ثلاثين أو أربعين أو خمسين عاماً من الحياة؛ لماذا يصرون على التمسك بلحظات حزن مرت عليهم وأصبحتْ من الماضي؟ وأنعم الله علهم بعدها بالكثير من لحظات الفرح والسعادة التي تجّبُّ ما قبلها من الحزن والألم.
والله ما مثل هؤلاء إلا كمثل المرأة التي وضعتْ لتوها، فغلبت الآم الولادة الفرحة بقدوم وليدها فرفضته وأحجمت عنه وكرهته وأنكرته، وبعد أن زال ألم الولادة ونسيته وصار من الماضي وعادت اليها صحتها؛ أصرّت على رفض وليدها وإنكاره حتى هلك جوعاً.
نحن نفعل المثل أيضاً، نتمسك بلحظات الحزن ونقتل لحظات الفرح والأمل، ونسد الأبواب أمام الأشخاص الذي يحملون السعادة الى قلوبنا، ونفتح آبار الماضي المؤلمة، نمتلك ذاكرة السمك فيما يخص الفرح والسعادة، ما إن تغيب عن ناظرنا حتى ننساها، ولكننا نملك ذاكرة الأبل والفيل معاً فيما يخض الحزن، لا ننسى الحزن، ولا ننسى من سببه لنا، ولا نسامحهم أيضاً، ولا نبتغي الأجر والثواب من الله على صبرنا، بل نريده حقداً في قلوبنا، وناراً عليهم.
لا تسمحْ لنفسك بأن تبكي على الحليب المسكوب، ولا أن تنكأ الجرح بعد التأمه، ولا أن تعبث بقطع الزجاج بعد أن تهشّم، فالبكاء لا يُعيد جمع الحليب المسكوب نظيفاً كما كان، ونكأ الجرح لا ينفعنا سوى بتجديد الألم وفقدان المزيد من الدم وإطالة زمن المعاناة، والعبث بقطع الزجاج تسبب لك المزيد من الجروح والخدوش.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
19-03-2023 02:44 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |