26-03-2023 10:08 AM
سرايا - يطوّف د. رضوان السّيّد في مدارات التراث العربيّ والإسلاميّ، طريفه وتليده، باقتدار وصبر عجيبَيْن، حتى لكأنّه أوتي مفاتيح كلّ ما استغلق من مداخلها، ويمثل هذا الباحث المتعدِّد والأستاذ الطُّلَعَة صورة ناصعةً لمفهوم المثقّف الهاوي، الجوّال، المُكتنز، والمضيء كذلك.
قادتني الصّدفة إلى الدّخول في عوالم هذه العلاقة النّبيلة بين د. السّيّد وإحسان عباس (1920-2003)؛ ذلك أنّني عثرت وأنا أقوم بالتّسيار المعرفيّ في تراثهما على صلاتٍ وثيقة بينهما، نقشها د. السّيّد على خدّ الزّمان في عدد من المقالات والدّراسات التي أشار فيها إلى هذه العلاقة، بما هي انعكاسٌ لأطياف عبّاس وإرثه في مرائي السّيّد!
وفي هذا السّياق أحبُّ أن ألمع إلى ما كتبه د. السّيّد، أستاذ الدّراسات الإسلاميّة الفذّ، في ذكرى إحسان عبّاس في مُناسباتٍ مُختلفة، من مقالات ودراسات ومحاضرات، وهي تكوِّن كتيبًا صغيرًا غنيًّا ومُكتنزًا، ومنها مثالًا: الكاتب والسُّلطان: دراسة في نشوء كاتب الدّيوان في الدّولة الإسلاميّة، وهي مراجعة نقديّة في كتاب عبّاس الموسوم بـ: (عبد الحميد بن يحيى الكاتب وما تبقى من رسائله ورسائل سالم أبي العلاء) في مجلة (الاجتهاد، 1989).
إلى ذلك؛ الوزير المغربيّ ومصائر علاقات الثّقافة بالسُّلطة في القرن الخامس الهجريّ، وهي مراجعة نقديّة لكتاب عبّاس عن (الوزير المغربيّ) في مجلة (الاجتهاد، 1989)، والكاتب والسُّلطان: نظرة في نشوء النثر الفنّيّ العربيّ، وهي قراءات صحفيّة في كتاب (عبد الحميد بن يحيى الكاتب) في صحيفة (السّفير) في حلقات ثلاث بتاريخ: (6 و10و11/5/1988)، وإحسان عبّاس والتّراث العربيّ في مجلة (الدّراسات الفلسطينيّة، 2003)، ونِصاب التماسك والبقيّة الباقية للانتظام في عالمنا الثقافيّ، وهي مقالة في رثائه، نُشِرت في صحيفة (الحياة) بتاريخ: (31/07/2003)، وإحسان عبّاس: دارسًا للتراث العربيّ، في كتاب (عامٌ على الرّحيل، 2007)، وإحسان عبّاس.. خازن الأدب، في صحيفة (مداد) بتاريخ(08-11-2007)، إضافةً إلى ذلك كلِّه تلك المقالة العلميّة العالية التي نشرها د. السّيّد في الكتاب الذي أُهدي إلى عبّاس بإشراف د. إبراهيم السّعافين بعنوان: (كتب السّير ومسألة دارَي الحرب والسِّلم: نموذج من كتاب السّيّر لمحمد النّفس الزّكيّة) في كتاب (في محراب المعرفة، 1997).
وأشار د. السّيّد إلى صاحبه عبّاس في مقالاتٍ عديدةٍ منها: مقالته في مؤسّسة آل البيت الملكيّة للفكر الإسلاميّ حول (رؤيةٌ في “الآلفة الجامعة” أو المودّة بين الناس، 2007)، وفي مقالته عن الرّاحل جابر عصفور في مجلة فصول (2022).
يقدم د. السّيّد من خلال هذه الكتابات وغيرها أنظارًا وافية عن أستاذ الجيل، وسارق النّار؛ نار المعرفة والثقافة والإبصار، كما فعل بروميثيوس، إذ تكرّس د. وداد القاضي هذا التماثل في عنوان جمعت فيه مقالات الرّاحل، ويجلّي هذا العنوان، في الحقيقة، علاقة التجاور والتجاوز بين الأسطورة اليونانيّة وإحسان عبّاس بوصفه أسطورة حقيقة كذلك، ومن ثم فإن د. السّيّد يحاول من خلال هذه الأنظار أن يجلي سهمة عبّاس الوافرة في التراث تحقيقًا ودَرْسًا، وهو يحوط ذلك بالاطلاع المستقصي والنّظر الثاقب.
حقق د. السّيّد، أحد ألمع خرّيجي جامعة توبنغن الألمانيّة في سبعينات القرن الماضي، عددًا كبيرًا من كتب التّراث، وأسّس فصليّة التّسامح “التّفاهم” في سلطنة عُمان، وأدار عشرات المشاريع الثقافيّة المهمّة، وعمل أستاذًا زائرًا في كبرى الجامعات العالميّة، وشارك إحسان عبّاس في تحقيق “الوافي بالوفيات” إلى جانب عدد كبير من الباحثين، الذين أصدروا برفقة عبّاس أجود نسخة من كتاب الصّفديّ.
حاولتُ أن أحصي عدد المقالات التي كتبها الرّجل عن خِدنه ورفيق دُروب المعرفة، فوجدت أنّها توزّعت وتعدّدت، وغدا أمر جمعها بحاجة إلى مزيدٍ من البحث في تراث د.السّيّد الموسوعيّ والمتناثر، وأنا إذ أكتب عن هذا المقالات فلأنها من أجود ما كتب عن أبي يوسف وصاحبه، أقصد عبّاس “الشّيخ”، وصاحبه د. السّيّد الذي يتمثل في صُورة “المُريد”، مثلهما مَثَل أبي يوسف صاحب كتاب “الخراج” وتلميذه يحيى بن آدم، ولأنّ د. السّيّد أحد أبرز الباحثين في التراث العربيّ في اللحظة الرّاهنة من عُمْر الأمّة، علما ودراية في مسالكه الوعرة!
وإذا كان عبّاس يبادل صاحبه د. السّيّد الأُلفة والمودّة فقد كان دائب “الذّكر الجميل” له في كتبه ومقالات وحواراته، فقد ذكره في مقدمة (التّذكرة الحمدونية) بقوله :” وإذا كان لي من كلمة أقولها في ختام هذه المقدمة؛ فهي تقديم الشُّكر الجزيل للشاب اللامع المتوقّد الذكاء صديقي الدكتور رضوان نايف السّيد الذي أعانني على استكمال المصادر الضرورية في التحقيق، ورعى هذا العمل بصيرته النافذة واقتراحاته السّديدة”، وكذلك في مقدمة (رسائل ابن حزم الأندلسيّ) بقوله: “كما أمدّني الدكتور رضوان السّيّد بكل ما أعانني على دراسة ما صَدَر من بحوث حديثة ذات صلة بهذا الجزء”، وقد أخبرني د. السّيّد أن كان كثيرًا ما يتعلّم منه، وقال لي: “قلتُ له مرارًا وقد سمعت وداد القاضي والسّعافين ورمزي بعلبكي يتمدحون تلمذتهم عليه: يا رجل، هذا فواتٌ كبير من جانبي لا يمكن تعويضه إلا بالتعلّم من كتبك وأخلاقك والوفاء لإرثك”.
وبعد فإنّ هذا النوع من الكتابة الصّادقة التي يقوم بها د. السّيّد، كلّ حين، تُجاه صاحب غربة الرّاعي أو “الراعي المغترب” كما سمّى عباس نفسه في حوار له مع د. فيصل درّاج نُشر في مجلّة الكرمل، إنّها نوع من تكريس “ثقافة الوفاء” في وجه ما ينتابها من عَوارض الدّهر، وهي استعادة لأطياف الراحلين، واستذكار لمآثرهم، إذ تتجلى في الموت صورة من نحبّ، وتغدو أكثر نصاعةً ووضوحًا وربّما جمالًا.
والسّلام على ذلك الرّاعي الذي لاقى وجه ربِّه وقد أدّى الأمانة كلّها، وتحيةً إلى د. رضوان السّيّد، أستاذ الأجيال، وأحد النماذج العالية في ثقافتنا العربيّة المعاصرة!