09-04-2023 09:37 AM
سرايا - تؤدي العتبات النصية في الفكر السيميائي المعاصر وظيفة إشارية ومركزية في العمل الأدبي بوصفها “فواتح أولى”، تنضوي على إشاريات تظل بحاجة إلى ممارسة “التأويل المضاعف”؛ بغية الكشف عن أنظمتها، والبوح بمضمراتها.
ولذا تتأسس هذه القراءة على مقولة مؤداها أن د. عبدالقادر الرباعي مارس فعل الانتخاب الأدبي حين تخير هذا العنوان لسيرته، ولا ندحة من القول: إنه استحضر قولة النقاد القدماء حين أكدوا أن اختيار المرء قطعه من عقله وقلبه، والحقيقة أن هذا الاختيار يعكس ثقافه الناقد والمبدع الذي هو في برزخ أو منزلة بين المنزلتين: منزلة الإبداع ومنزلة النقد.
وفي هذا السياق يثير مصطلح “الوشم” في العنوان وفي انعكاساته على بنى النص حديثا مشتجرا، إذ يمكن الحديث عن “ثقافة الوشم”، و”بلاغة الوشم”، و”سيميولوجيا الوشم”، و”جماليات الوشم”، إلى غير ذلك من هذه العناوين الدالة التي تدور في إطار الفضاء المعجمي والدلالي للجذر اللغوي “وشم”، وهنا يمكن الإشارة إلى أن مفهوم الوشم يرتبط في المخيل الميثي الإنساني بالألم والمهارة والجمال معًا، إذ يبرز “الوشم” بوصفه حضورًا أو تأسيسًا للحضور وثقافة الإشهار.
وبما يتعلق بسيمائية العنونة فإن د. الرباعي يمارس فعل الانتخاب الثقافي باختياره “الوشم”؛ ليكون معادلًا موضوعيا لها، إذ تتلاشى من خلال هذا الرمز المسافة الفاصلة بين “الوشم” وسيرة الذات الرباعية/ البطل الرئيس والواشم في الآن عينه، لتصبح سيرة الذات وفقًا لهذا المنظور سيرةً تحاكي سيرة “الوشم” ألـمًا وجمالًا، في خلوده، وثبوته على مدى الزمان؛ ذلك أن الوشم بوصفه علامة ثقافية وسيمائية يتمثل في المخيل الإنساني والعربي في صور متعددة تدور في فلك هذه المعاني.
يصطفي د. الرباعي هذا العنوان، ليرسخ التماثل البين بين سيرته وبين “الوشم”؛ بيد أن هذا التماثل البين يمكن أن يشي من منظور آخر بحقيقة التجدد والانبعاث التي تنطوي عليها قيمة “الوشم”، بوصفه ترسيخًا للحضور، وتناسلًا للحياة، فـ”الوشم” رمز لرغبة الذات في حماية أرشيفها/ سيرتها ضد سلطة الزمن في إطار ثنائية “الكتابة والمحو”، و”الوشم” أداة لحفظ الذاكرة والحضور، كما في دراسات الذاكرة.
وتتأسس بنية العنوان في هذه السيرة على مفهوم المغايرة والاختلاف، فإذا كان نظام العنونة يميل في عصر الحداثة إلى الميل نحو شعرية الإيجاز والتكثيف فإن التناص المضمر مع نظام العنونة التراثي يخلق في عنوان هذه السيرة شعريةً مائزةً تولدها دلالات التقابل الدلالي والإيقاعي بين خد الصفا/ عواصف المدى؛ إذ تستدعي بنية العنوان مفهوم “بلاغة العنونة”، التي تؤكد قدرة الذات المبدعة على صياغة عنوان رامز وشفري، يستفز المتلقي، ويأخذ بيده إلى مداراته وغواياته.
ولا ريب أن العنوان الفرعي الذي اصطفاه د.الرباعي “سيرة نقشتها على خد الصفا عواصف المدى” يمثل بؤرة إشارية متناسلةً من البؤرة الأولى/ العنوان الرئيس “حكاية وشم”، إذ يكرس هذا العنوان الفرعي معاني الثبات، والخلود، والبقاء، والذاكرة، بما تحمله ألفاظه المتخيرة من أنساق وإشارات دالة، ويبدو “الصفا والمدى” بوصفهما أقنومين من أقانيم العنوان الفرعي لهذه السيرة تعبيرًا صادقًا عن رحلة الذات المبدعة؛ لأن هذه السيرة مشغولة بهواجس الصفا أو قل: القبض على جمر الصفاء والصدق أثناء تجوالها الدائب، والسندبابي، بين الجامعات والدراسات والمناهج.
وبالنظر إلى الإهداء الذي رقنه السارد/د. الرباعي في مفتتح سيرته الراهنة إلى “بشرى” يبرز اختياره للزوجة، مهدى إليه لتأكيد دور المرأة الفاعل والناجز في حكاية “الوشم”، وحفر حضور الذات، إذ يتكشف ذلك من خلال مثولها في تمثيلات متعددة: فهي البشارة الإلهية، وشريكة دروب الحب، ورفيقة الدرب الوفية، وهي مجمع صفات تستوجب الشكر، إذ تمثل أفعالها عند د. الرباعي فعلا تضحويا/نبيلًا كان شرطًا وضرورةً معرفيةً لازمة للإبداع والتفرد.
إن سيميائية الإهداء تعكس رغبة السارد/ الواشم بتأثيث فضاء سيري ينتمي إلى الذات الكتابة، بما يحمله الاسم “بشرى” من إشارات ترتبط بذلك، على اعتبار أنه اسم “علم”، إذ يمثل اسم العلم في الدرس السيمائي بؤرة “الدوال”.
وفي إطار سيميائية العنونة في فصول السيرة يمكن القول: “إن العنوان الرئيس، وإن كان يشكل الدلالة الأولى في ذهن المتلقي والحمولة السيميائيّة الكبرى للنص الإبداعي، إلا أن عناوين الفصول/ العناوين الفرعية تسهم في تعضيد فكرته، ذلك أن هذه العنوانات ترسل ومضاتها المشعة إلى مختلف أجزاء النص، وتحاول أن تقيل عثرة القارئ، السائر في شعاب النص ووهاده”.
وتمثل عناوين فصول هذه السيرة عتبات نصية تأخذ بعدًا محوريا في الخطاب العتبي في هذه السيرة، ذلك أنها تتعالق نصيا مع عنوانها الرئيس “حكاية وشم”، إذ تغدو حكاية الوشم أو رحلة الوشم بوصفها انعكاسًا لتجربة الذات الإنسانيّة مشتركًا نصيا ودلاليا بين عنوان السيرة وعناوين فصولها.
وإذا كان “فعل الوشم” مرتبطًا بالألم فإن المدار النصي لهذا العنوان يتداخل، والحال هذه، مع الألم الذي حفرته عواصف المدى على خد الصفا، فرسخت حضور الذات الواشمة في سيرة “الوشم”، وأبرزت حضورها، بما يحقق ما يمكن تسميته بثقافة الألم أو جماليات الألم.
وتنماز هذه السيرة بعتبتين خاصتين بـ”الوشم” مفهومًا ورؤية، أما الأولى فتمثل فاتحة نصية يفتتح بها السارد النص، ويشير إلى سيمياء العنوان، وهو يمارس فعلا نقديا، وكأن نفس الناقد أبت إلا حديثًا، وأما الثانية فتجيئ في خاتمة السيرة، جمعًا لما تناثر من خطوط هذا “الوشم”.
ففي المقدمة بوصفها فاتحة نصية يعقد السارد مقارنة بين الواشم والذات الرباعية رغبةً في تشابههما ثم ينتقل إلى الحديث الوشم والسيرة على اعتبار أن سيرته تمثل وشمًا في إحدى تجلياتها، يقول السارد:” حكاية الوشم المتخيل هي في الحقيقة سيرة الواشم التي تتداولها الكلمات المنطوقة والصفحات المرقومة وتدور بها دوران كفى الرحى على رقاع المدى أو تنقشها على خد الصفا عواصف المدى”.
ويتناول د. الرباعي حضور الوشم في المخيل المثيولوجي العربي قبل الإسلام والعصر الحديث والدين الإسلامي، ولكنه يحترس بأنه لا يستدعي هذا الحضور تبريرًا لاختيار العنوان، وإنما واصفًا لتمثيلاته في الذهنية العربية، وفي هذه العتبة تتنازع ذات د. الرباعي الناقد وذات المبدع الراغب في تسريد تجربته، إذ يبرز في ثناياها صوت الناقد وصوت المبدع بصورة يصعب الفصل بينهما.
إن هذه المقدمة النصية أو العتبة عتبة تحاول الذات الواشمة من خلالها الأخذ بيد القارئ وفك الالتباس عن منكر الاقتباس كما يقول جدنا الثعالبي، فالسارد يكشف عن دوافع اختياره لارتداء إهاب الواشم بما يؤكد أن سيرته تتماهى نسقيا ونصيا وسيميائيا مع “الوشم”.
وإذا كانت البداية كالنهاية عتبة نصية تنضوي على عدد من الدلالات؛ لأنها آخر ما يلتحم به المتلقي من النص فإن السارد ينتخب لها عنوانًا هو” خاتمة الوشم”، وهو في هذه الخاتمة إنما يتحدث بلسان الحكمة، بل يقطرها، فرحلة الذات الواشمة والتي تماثل الوشم تستوجب حديثا عن الحكمة التي اكتسبتها في تسفارها الدائب في أرض الله والمعرفة.
ووفقا لهذا المنطلق يمثل الخطاب العتبي أو خطاب العتبات في “حكاية وشم” بنية نصية، تتماس إشاريا بوصفها بنية / أو بنى متضافرة مع الموضوعات المركزية التي تكون أقانيم هذه السيرة، من قبيل: العلم، والحنين، والوفاء، والصدق، والصفاء.
*أستاذ في قسم اللغة العربية وآدابها
كلية الآداب/ الجامعة الهاشمية