بقلم : د. عاصم منصور
لقد اختلفت الصورة النمطية التي ارتسمت في أذهاننا عن طلاب الطب والأطباء المتدربين من ذلك الطبيب الذي يرتدي مريولا أبيض ويملأ جيوبه بالكتيبات الإرشادية التي تعينه على الوصول إلى التشخيص الصحيح أو لوصف العلاج الأنسب، واليوم وبوجود الهواتف الذكية المرتبطة بالإنترنت، ما عاد هناك من حاجة لحمل مثل هذه الكتيبات.


ثم جاء الذكاء الاصطناعي(AI) ليحدث ثورة عظيمة في الطب، وآخر انجازاته «CHAT GPT»؛ والذي تم إطلاقه في نوفمبر 2022 كأداة من أدوات الذكاء الاصطناعي ليصنع ويخلق أنماطا جديدة في طرق ممارستنا للطب، فلم يعد الطبيب الأفضل هو ذلك القادر على حفظ واستظهار كمية هائلة من المعلومات، وهي القاعدة التي بنيت عليها امتحانات الدخول إلى كليات الطب أو البرامج التعليمية، فمهما برعت ذاكرة الطبيب وأظهر قدراته الكبيرة في الحفظ: فلن يستطيع أن ينافس ما تقدمه تطبيقات الذكاء الاصطناعي من قدرة هائلة في الوصول إلى كم ضخم من المعلومات والبيانات وتحليلها في ثوان، والتعامل معها بطريقة مشابهة لطريقة عمل الدماغ البشري في التحليل وانشاء سلسلة مترابطة من الكلمات والتعابير المنطقية. فهذا التطبيق يتم ضبطه بدقة باستخدام التعلم الآلي الخوارزمي والمصمم للتعلم والتعرف على انماط البيانات بشكل مستقل.


وقد أصبح مشهدا مألوفا أثناء مرور الأطباء على مرضاهم أن ترى الأيدي قابضة على مفاتيح الهواتف الذكية؛ للاستعانة بها للوصول إلى المعلومة الدقيقة. ولا شك أن أراء مهمة لخبراء التعليم والتدريس الطبي تقوم على الدعوة إلى تغيير انماط برامج التدريب الحالية والتركيز على تدبر المعرفة التكنولوجية، ومهارات التواصل والقدرة على تحليل المشاكل المعقدة.


والذاكرة البشرية مهما بلغت قدرتها على الحفظ وتخزين المعلومات فلن تستطيع أن تنافس ما يقدمه الذكاء الاصطناعي في هذا المجال، إذ بإمكانه الوصول إلى استخدام مجموعة بيانات ضخمة من النصوص المجمّعة من مئات المليارات من الكلمات من الإنترنت والكتب بوقت قياسي للإجابة على أسئلتنا الموجهة إليه!
وفي ضوء عملقة الذكاء الاصطناعي في عالم الطب، هل سيقتصر دور المتخصصين في مجال الرعاية الصحية على التواصل مع المريض وطلب فحوصات طبية إضافية؟
حتى هذه أصبحت في متناول التطبيقات الحديثة للذكاء الاصطناعي، من خلال مقدرتها على الوصول إلى الملفات الطبية الإلكترونية للمريض وبالتالي التواصل معه؛ لاستقصاء المزيد من المعلومات وتحليل البيانات والخروج بنتائج لوصف العلاج الأمثل.

ومع تطوير العديد من هذه التطبيقات في التشخيص وتخطيط العلاج وحتى الإجراءات الجراحية نما استخدام الذكاء الصناعي في الصناعة الطبية وأهم فوائده القدرة على تحليل كم هائل من البيانات بمعدل أسرع من قدرة البشر، كما سيعمل على تطوير العقاقير والعلاجات الجديدة باستخدام خوارزميات الذكاء الصناعي، وسيتيح للباحثين تحليل كميات هائلة من المعلومات والبيانات المستقاة من التجارب السريرية بسرعة كبيرة ليساعدهم في اتخاذ القرارات السليمة حول العلاجات الأنجع مما ينعكس إيجاباً على نسب الشفاء من الأمراض المختلفة.


وأؤمن بأنه ما تزال هناك طريق طويلة أمام الذكاء الاصطناعي للوصول إلى المأمول، فهناك قضايا أخلاقية وقانونية ما تزال غير مطروقة بالصورة اللازمة؛ ومن أهمها سرية معلومات المريض والمسؤولية القانونية عن الأخطاء، كذلك نوعية المعلومة المتوفرة والتفريق بين تلك التي تستند إلى أدلة علمية راسخة وأخرى لا تدعمها الأدلة، لكن الثابت أن الطب بعد عصر الذكاء الاصطناعي لن يمثّل الطب الذي عهدناه قبل هذا العصر. لكن هذا الأمر لا يعني بأي حال من الأحوال أن الذكاء الاصطناعي سيكون بديلا للحكم البشري والخبرة، لكنه يبقى أداة صُمّمت لتعين وتدعم عمل الأطباء والمتخصصين في الرعاية الصحية لا لتحل محلهم.


من جهة أخرى لا أشكك بالدور الكبير الذي سيلعبه الذكاء الاصطناعي في تطوير وتحسين جودة الرعاية الطبية، وسلامة المريض، والتقليل من الأخطاء الطبية، وفي مراقبة ومتابعة المرضى الذين يعانون من الأمراض المزمنة من خلال متابعة مؤشراتهم الحيوية على مدار الساعة، والمساعدة في تحديد المرضى المعرضين لمخاطر عالية والتنبؤ بالمشاكل الصحية المستقبلية، وبالتالي رصد المؤشرات المبكرة للأمراض؛ مما يزيد من فرص الكشف المبكر الشفاء.