30-04-2023 08:27 AM
بقلم : د. هبة أبو عيادة
في زيارة ترفيهية إلى منطقة وادي رم السياحية، سعدت بالبساطة والترحيب والكرم الحاتمي وإكرام الضيف و استغربت عند وصولي مواقف السيارات بدون حارس، فالكل يضع سيارته في مواقف خاصة في أمن وأمان إنها أمانة البادية، واستوقفني موقف مهيب لأهل البادية، أخلاق البادية، قيم البادية، بينما الكل على قدم وساق يعمل بجد ليحصل على قوت يومه تحت شمس الصحراء الحارقة، بتنظيم رحلٍ مستمرة على مدار الساعة بعمل دؤوب بسيارات رباعية محملة بالسياح والزوار، ويراعي فيها البدوي كل اللغات والعادات العربية والغربية.
وخلال رحلتي، فجأة بدون سابق إنذار، وفي غمضة عين توقف الجميع عن العمل، متوجهًا دون أي تردد ومن معه في السيارة إلى مكان واحد (حتى أنا)، السبب: إحدى السيارات انقلبت رأسًا على عقب، فتوجه الجميع مباشرة إلى منطقة الحادث للاطمئنان على السائق (السايج طيب؟)، وأنا جالسة أنتظر عودة سائقنا؛ تزاحمت الأسئلة في ذهني، أسئلة كثيرة، استفسارات وملامح دهشة واستغراب، أعرض لكم بعضها:
• الترابط المجتمعي: الكل ترك عمله ومصدر رزقه، ولقمة عيشه، وزاد يومه، لم يفكر بأي شيء إلا بسلامة ابن قريته، تذكرت قول الحبيب المصطفى (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّىّ) فهذه المحبة والعلاقات الوطيدة نفتقدها جدا.
• الولاء والانتماء: حضر الدفاع المدني مباشرة، حتى أن سيارة الإسعاف لم تستخدم أي أصوات للتنبيه فالكل أخلى الطريق، الطريق بدون أزمات ولا مشاهدين ولا فضوليين، لا يغلقها أحد، سيارة الإسعاف تنقل المصاب مباشرة، لم يرتفع هاتف واحد للتصوير، أنظر يمينًا يسارًا لم يصور أحد الحادث ولم يتم بثه المباشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حتى أنه لم يتم تداول الخبر، الكل مشغول بالحدث كأنه المصاب ابنه، لا بث ولا تصوير ولا تناقل، الهمُ واحد والقلبُ واحد، استحضرني قول خير البشرية :(خَيرُكم خَيرُكم لأهلِه، وأنا خَيرُكم لأهلي) فكان الجميع نِعم الأهل للمصاب.
• الأمانة: بعد ذهاب المصاب، رجال الدفاع المدني والبادية يد بيد وبدون رافعة أو ونش أو أي آليات اصطفوا معًا صفًا واحدًا متماسكًا وقاموا بقلب السيارة مرتين، مهما وصفت لك، من الصعب تخيل هذا المشهد، لم يستغرق الأمر دقائق معدودة (يد على يد رحمة)، وقاموا بجمع كافة أغراضه التي سقطت من السيارة داخل سيارته، يدُ بيضاء محبة أمينة (على غير المعتاد مما نسمعه من سرقات في أماكن الحوادث).
• المسؤولية المجتمعية: اعتقدت أن المشهد انتهى، إلا أنه استمر؛ إذ قام رجال الدفاع المدني بكل الأدوات المتاحة وكامل طاقتهم وجهودهم للسعي لفتح غطاء السيارة الأمامي (وجوه شديد الاحمرار من حرارة الصحراء العالية، العرق يتصبب، الجهد والتعب واضح عليهم) ورغم كل التعب إلا أنهم استمروا لفصل البطارية خوفًا من الانفجار أو إلحاق الضرر بالآخرين)
• الاحترام: انتهى الموقف، عاد الجميع معتذرًا لزبائنه عن الوقت الذي استغرقه في انشغاله في حادث، بقمة الأدب والاحترام يطلب المعذرة والسماح عن التأخير (بالرغم أن الوقت كاملاً لم يتجاوز ربع ساعة).
عزيزي القارئ، تخيل نفس الموقف حدث في المدينة، الكل سيبدأ بالتقاط الصور مباشرة أو إيقاف سيارته ليس للمساعدة بل للفضول أو بث الحادث على صفحاته عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عداك عن إغلاقات الشوارع، وأزمات السير، وصعوبة وصول سيارة الإسعاف، وانتظار وصول الرافعة، والسرقات التي ستحدث.
ختامًا تحية إجلال واحترام وتقدير لنشامى البادية ولأخلاقهم وقيمهم ومبادئهم وعاداتهم وتقاليدهم ومحبتهم وعظيم وحدتهم وجميل تعاونهم، ورقي علاقاتهم، دائمًا ننادي بإعادة هيكلة القيم، وبلورة المنظومة الأخلاقية، أقول إن البادية رغم جلافة الصحراء وقسوة ظروفها المعيشية الا ان اخلاق اهل البادية تميزت بالسلامة والاعتدال و منبع لتهذيب النفس وتقويم السلوك وغرس المبادئ إن البادية مدرسة، بل دستور أخلاقي تطبيقي متكامل مرن يؤكد على رسوخ مكارم الأخلاق العربية، لا بد أن يدرس ويُمنهج، ونربي أبناءنا على هذه القيم السليمة الصحية الفطرية التي لم يلوثها عولمة أو حقد أو أي خطابات كراهية، بل ينعمون بتعايش سلمي ومحبة وأمن واستقرار واحترام الثقافات والحوار.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
30-04-2023 08:27 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |