04-05-2023 11:23 AM
بقلم : محمد كامل العمري
من المعلوم أن لمركز دراسات الجامعة الأردنية استطلاعاته الدورية في جس نبض الشارع ومعرفة آليات التفكير الجماهيرية، وذلك من خلال اللقاءات المسحية المكثفة والشاملة لكافة المناطق الجغرافية. وهذا النهج استجلب، من وقت لآخر، متاعب كثيرة سواء لجهة التشكيك بنزاهة المركز أو حتى على مستوى دقة الأرقام ودلالتها البيانية، فضلاً عن الضغوطات التي قد يتعرض لها المركز من قبل بعض الجهات التي تسعى للتأثير على نتائج دراسته.
إضافة إلى ذلك، يحسب لمركز دراسات الجامعة الأردنية استقلاليته التامة عن أي نوازع تأثيرية، مهما بلغ قوتها أو مصدر سلطاتها، ودليل ذلك هو الكم الكبير من تعارض بعض البيانات الاستطلاعية في دراساته مع ما يقال ويرسم في الفضاء العام. ولا ننسى أن المركز ساهم في التأثير على نخبة كبيرة من صناع الرأي، حيث يمكن الجزم أن هذا التأثير بدأ منذ استلام الأكاديمي البارز الدكتور مصطفى حمارنة قيادة المركز وتواصل الأمر مع الدكتور زيد عيادات؛ الذي استطاع بلورة منهج جريء قائم على اقتحام كافة الخطوط مهما بدت حساسة أو تثير الرأي العام.
ومما تجدر الإشارة إليه أن المركز ظل على الدوام المساهم الأبرز في إرفاد الحياة السياسية الأردنية بكافة المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد جاء الاستطلاع الأخير ثمرة لهذا النهج. أما تنوع ردود الأفعال على نتائج الاستطلاع فإنه يشير بشكل واضح، من جهة، إلى موضوعية المركز، ومن جهة أخرى إلى تقبل وتسامح قيادة المركز الممثلة بالدكتور زيد عيادات من حيث استقباله لكافة الأسئلة أو الانتقادات، حتى لو كانت تمس مساره المهني أو علاقته الشخصية. وعليه، يمكن إجمال الملاحظات من خلال بعدين أساسيين وفق التالي:
أولاً: تراجع الاهتمام بالسياسة وضعف الحضور الحزبي
ربما أكثر ما لفت انتباه المتابعين بنتائج الاستطلاع الأخير هو التراجع الواضح للحضور الحزبي على المستوى الجمعي، حيث بدا الأمر يتخذ منحى تحليليا واضحاً في الفضاء التواصلي، خاصة وأن ١٤٪ يرون أن التجربة الحزبية ناجحة، وواحد في المئة فقط من الأردنيين ينون الانضمام إلى الأحزاب مستقبلاً. ولكن، وتوضيحا لهذا السياق تحديداً، وضمن المحاولة لفهم لغة الأرقام، فإن الواقع يؤكد أن الإقليم -خلال العقد الماضي- سعى عبر منظوماته السلطوية إلى "تهشيم" السياسية وتجريفها من المجال العام. صحيح أن السياسة (خاصة مطلع "الحراك الثوري") كانت خلاصية بالنسبة إلى شعوب بأكملها، مما أنتج "كوارث" ثورية لا يمكن نسيانها، لا سيما مع فشل نموذج الدولة السلطوية في تقديم الرعايا الاجتماعية والاقتصادية اللازمة لاستمداد شرعيتها، إلا أن الأخطاء التي مورست في السياق الجمعي والسلطوي جعلت من التطلع الشعبي نحو السياسة بشكل عام يتخذ منحى سلبياً.
ويلاحظ في الآونة الأخيرة، بعد عملية تشويه و"تهشيم" السياسة نزوع الناس نحو مجالات أقل جدلاً وصراعا، هذا فضلاً عن فقدان البوصلة بما يتعلق بالهوية وتعريف من هو الأردني، وتخوف الكثيرين من فقدان مكاسبهم المتراكمة. إضافة لمجموعة أخرى ترى في السياسة على أنها قضية رعاية وأخذ مقابل رد وليس صراعاً اجتماعيا وثقافياً بين شرائح مختلفة تحتكم إلى منظومة دستورية. وتشويه السياسة تبلور أكثر عندما اتهم بعض المسؤولين السابقين (ضمن شعبويتهم المعتادة بعد التقاعد) بأن الأحزاب الجديدة هي مجرد واجهة كرتونية للدولة. والغريب حقا أن هؤلاء المنتفعين بالمزايا والعطايا لا يدركون مسؤولية الدولة في إنتاج طبقة سياسية تؤمن بالدور البيروقراطي وبالصراع الأخلاقي المحكم. إنهم، في واقع الحال، يريدون سياسة قائمة على التنفيع القبلي البدائي ووفق نموذج محاصصة يتسم بمصادرة الكفاءة لصالح العلاقات التشابكية.
إن ضعف معرفة الأردنيين بالتجربة الحزبية وقلة انخراطهم بالتشكيلات السياسية الجديدة راجعة إلى الأسباب أعلاه، حيث رؤية الكثيرين للسياسة على أنها تعب وهم وملاحقة أمنية، إضافة لترسيخ متعمد من البعض على أن التجربة الحزبية هي مجرد إعادة تدوير، فضلاً عن ضعف الحضور الإعلامي القائم على "ثقافة الفيديوهات" أو حتى التشابك مع البنى الموجودة، ثقافياً وسياسياً. أما القول إن الدول التي في طور التحول الديموقراطي تشهد بطبيعتها جذباً أكبر فإن ذلك يستلزم إيماناً شعبياً بالتحول السياسي، وهو أمر لا تتحمله الأحزاب بكل تأكيد؛ لأن مهمتها الأساسية تقتضي تكوين حالة متعالية على النماذج الشعبوية الموجودة في الساحة (خصوصا الحراكية المناطقية)، ومن ثم نزع القداسة عن هذا المسار وإيجاد بديل للصراع الاجتماعي، فضلاً عن قدرة الأحزاب -مستقبلا- على تقديم رؤى إصلاحية ضرورية وقد تكون قاسية (التطوير الحضري، المجال الثقافي، الرؤية الاقتصادية.. الخ). وبالتالي، أرى أنه قريباً ستزداد حالة الجذب الحزبية بمجرد دخول الأحزاب البرلمان وزيادة مستوى تمثيلها الحكومي وتعاظم مكاسب روادها الأوائل. وقتها سيؤمن الكثيرون بالحياة الحزبية عندما يشاهدون قدرة الأحزاب على الاشتباك والتغيير السياسي، أو تأثيرها المباشر على حياة المواطنين.
ثانياً: فقدان الثقة المجتمعية وانعكاس ذلك على الحياة السياسية
ربما يمكن إضافة بعد فقدان الثقة إلى العوامل التي تضعف البنية السياسية، خاصة وأن الاستطلاع الأخير أوضح الفجوة الكبيرة بين الأردنيين ببعضهم؛ الجار بجاره؛ الأخ بابن عمه؛ الرجل وزوجته؛ العلاقات العشائرية.. كل ذلك أصابه وهن الثقة، مما يعني -كما يؤكد الدكتور زيد عيادات في لقاء "نبض البلد"- تزايد ضعف الحضور الحزبي، الذي يستند على ممارسات جماعية بأساسه البرامجي، فضلاً عن ضعف التنمية الاقتصادية نتيجة لضعف الثقة.
تآكل الثقة المجتمعية يمكن إرجاعه إلى ضعف البنية الأبوية أو ترهلها في المرحلة الحالية، وذلك نتيجة الأوضاع الاقتصادية، الأمر الذي أنتج سلوكيات غير مألوفة أبرزها ضعف "العلاقات الولائمية" في المجتمع، انتشار مظاهر العنف بين أفراده، رغبة جزء كبير في تجريب المسارات التمردية، ظهور نموذج الذكر النيتشوي، زيادة وجود التدين الشكلي في الفضاء العمومي... الخ. ولذا فإن الواقع الحالي يحتم استثمار حالة الترهل بما يؤسس للدولة قدرة توجيهية من حيث التحكم بالصراع القادم عبر الأحزاب، لا سيما لجهة تحرير المرأة من تأثير البنى الابوية بما يؤهلها الانخراط في المجال العمالي. ومما يلفت الانتباه بلقاء الدكتور زيد عيادات الأخير أنه ركز على دراسة عامل فقدان الثقة بدلاً من متابعة مقدار الثقة بالحكومة؛ لأن ذلك يمكن أن يرفدنا بطبيعة تفكير البنى الجمعية.
ختاماً؛ مثل الاستطلاع الأخير تحديا كبيراً لجهة تحليله وتفكيكيه ثم تركيبه وفق المعطيات الاجتماعية المتوفرة، وما يجره ذلك من تصادم مع الثقافة الشعبية أو مع بعض الرؤى المقدسة لدى الجماهير. ولكن، وكما هو معهود عن المركز منذ تواجد الدكتور مصطفى حمارنة وإلى اليوم، فإن لا حدود معينة لتجاوز الخطوط التي قد تبدو مرسومة للبعض أو التي قد تتخوف منها مؤسسات معتبرة في الدولة. هذا الأمر يعتبر منهجاً أساسياً في عمل المركز، وهو ما أكسبه مع الوقت مصداقية على كافة المستويات، وجعل منه مقصداً معتبراً وجهة موثوقة يعتد بها في المحافل العلمية.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
04-05-2023 11:23 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |