11-05-2023 04:56 PM
بقلم : السفير قيس شقير
كثيرًا ما نربط ما بين تراثنا وهُويتنا، فنرى فيما توارثناه عن الأجداد من عاداتٍ وتقاليدٍ اجتماعيةٍ مكونًا ضمن مكوناتٍ لهُويّةٍ وطنيةٍ تُصبغ علينا شخصيّةً موحّدةً تُعرّف بنا، و تُقدمنا للآخر، قريبًا كان أو بعيدًا. فغدا "الشماغ" بعقاله لباسًا وطنيًا أردنيًا، وكذلك طبقنا الوطني الأشهر؛ "المنسف" مقترنًا بلبن "الجميد" دون غيره.
وفي استحضار حديث التراث والهُويّة، أدلى "الجميد" بما له في هذا الحديث، فقال:
"جلّكم، إن لم يكن كلّكم، يراني مكمّلًا ضروريًا لطبقكم الوطني، ولا أحد منكم، لا من الشمالٍ ولا من الجنوبٍ، مرورًا بالبلقاءٍ، سأل يومًا عن كنه هذا الذي تفرّد عن سواه من ألبانٍ ومشهيات طعامٍ، فحطّم رقمًا قياسيًا بتفرّده على موائد الأردنيين، دون سواهم، طاويًا مقولة: " لكل زمانٍ دولةٌ ورجالٌ"، إذ ما زلت رغم عقودٍ، ولعلها قرونٌ مضت، أُهيمن على مساحة "سدر المنسف" الذي لا يقارعه طبقٌ طعامٍ لا من شرق العالم، ولا من غربه، ولم تسألوا يومًا عن سرّ البقاء هذا، والذي تجاوز حقائق التطوّر والتمدّن، وتكنولوجيا الطبخ، فما استغنيتم عمّا كان أجدادكم في بادية الوطن، وريفها، وحاضرتها يعملون؛ إذ يحفظون اللّبن ببعض ملحٍ أغناهم عن ثلاجاتكم، وجنّبهم فاتورة الكهرباء التي بات تسديدها ينوء بالعصبة أولي القوة.
هذا هو مدخل حديثي النادر إليكم يا من حفظتموني عبر التاريخ، فدعوني أذكّركم بأن ما بيني وبينكم يتعدّى إطار المائدة، فأنصتوا:
" تناقلتم عبر وسائط التواصل الاجتماعي - فرحين- فيما بينكم، خلال شهر رمضان المبارك خبر مائدة الإفطار التي أقامتها عشيرةٌ كريمةٌ من أهل قرية "إدر" في الكرك لابنها الذي أصرّ أن يشاركه أهله مسلميهم ومسيحييهم، غداء العرس على مائدة إفطارٍ رمضانيٍ. فكنتُ، وهذا شأني، جامعًا لكم في مناسباتكم الاجتماعية، رغم ما يتوفر في السوق لديكم من بدائلٍ، فلقد عرفتم أنكم ارتبطتم بي وبالمنسف الذي يستحيي أحدكم أن لا يلبي نداءه.
وإن تمعنتم في هذه المناسبة، فلكم أن تبوحوا للعالم بمكنون أصالتكم التي تجمع عريسًا شابًّا بكهلٍ وبعجوزٍ، وإمام مسجدٍ، و"خوري" كنيسة على مائدةٍ رمضانيةٍ لا تقام في إدر، أو في الجنوب فحسب، بل وفي كل باديةٍ وريفٍ وحاضرةٍ على امتداد الوطن ، لتسبقوا بذلك كل منتديات حوار الأديان، ومقولات العيش المشترك، بأزمان....
ولكم أن تسترسلوا إن استحضرتم التاريخ في الحديث عن الوطن والهُويّة، فمن حفظ قرص الجميد لقرونٍ، لا أخاله ينسى أن جذوره في الأرض تتجاوز "فرجار" سايكس- بيكو، وبطولات "لورنس العرب" الجيمسبوندية، فتأخذنا ربة عمون عاصمة الأردن، الذي لم يغب اسمه عن صفحات تاريخ أمتنا إلى حضاراتٍ وثقافاتٍ كنتم مكونًا أصيلًا لها، لا تنحصر بدولةٍ أمويةٍ، ولا عباسيةٍ، بل وتمتد إلى ما هو أبعد. وكيف له أن يغيب ومؤتة في الجنوب تحتضن طهر شهداء صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ ونهر اليرموك في جوار إربد، يشهد بما دار على ثرى الأردن من أحداثٍ تجاوز صداها حدود الزمان والمكان الذي كان جزءًا من إمبراطورياتٍ علت، ثمّ هوت، فيما ظل الأردن قائمًا، وصامدًا، وشامخًا، يحفظ لنا ارثًا ائتمن نفسه عليه من المدن اليونانية العشرة ( ذيكابوليس) إلى أطول نفقٍ مائي أثريٍ رومانيٍ ربط شقي سهل حوران الممتد رغم أنف "مكماهون"؟.
ولا تقف حكايا التاريخ عند هذا فحسب، والمقام هنا لا يتسع للخوض أكثر، إذ عند أحفاد الأنباط بواد موسى كثيرٌ يقال.
أحبتي، بحتُ ببعض ما عندي، وأعلم أنّ عندكم أكثر ، لكنّها خاطرةٌ شاركتكم بها، إذ أسعدني أني ما برحت مكونًا تراثيًا أصيلًا نمّ عن أصالتكم بحفظكم لي، وعن جذوركم التي تأبى إلا أن تظل ممتدةً في أرض الأردن الطيب، رغم تحوّلات السنين، وتراكمات من يخطط هنا وهناك. فحافظوا عليه وعليَّ، حفاظكم على أصالتكم، واصمدوا بوجه ما ترون حولكم من مظاهر عولمةٍ، وفرضٍ لأيديولوجياتٍ لا تتسع لخلقٍ حميدٍ، بل لمادياتٍ تجافي إنسانيتكم، ولا تهدف سوى لمسح هُويّتكم استكمالًا لمخططات سايكس - بيكو، وكل دهاقنة التآمر على هذه البقعة الطاهرة من الأرض التي وُلد على ثراها المسيح عليه السلام، وأُسري بمحمدٍ صلّى الله عليه وسلّم إلى أقصاها، وتوستطها مملكتكم الحبيبة.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
11-05-2023 04:56 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |